السؤال:
هل تعتقد أن تبرير اللاشعور يرقى إلى كونه نظرية علمية، أم أنه يظل مجرد افتراض فلسفي؟
فهم السؤال:
افتراض فلسفي: اقتراح ظني غير مؤكد، يفتقر إلى أدلة تثبته.
جلسة تحليل نفسي |
طرح المشكلة:
ارتبطت العلوم بالفلسفة قديما، وكان هذا شأن علم النفس أيضا، وهو الذي لم ينفصل عنها إلا مؤخرا، وهو علم يدرس النفس البشرية، ويحاول اكتشاف أسرارها والقوانين التي تتحكم في السلوكات الصادرة عنها، وقد اهتدى علماء النفس خلال القرن 20 إلى اكتشاف اللاشعور، واعتبروه مفتاحا جوهريا في فهم الحياة النفسية والخاصة الجانب المرضي منها، ولم يكتفوا بإثباته فقط إنما اعتبروه بمنزلة النظرية العلمية التي لا تقبل الرفض أو مجرد الشك، وفي المقابل ترى بعض الدراسات الوضعية الأخرى أن اللاشعور لايرقى إلى درجة النظرية العلمية، إنما يظل مجرد افتراض فلسفي كونه يحمل الكثير من التناقضات التي تخرجه من دائرة العلمية، وهنا لابد من التساؤل: هل احترم سيجموند فرويد خصائص المعرفة العلمية في اكتشاف اللاشعور، أم أن هذا الاكتشاف لا يخرج عن دائرة المواضيع الفلسفية التي تختلف حولها الآراء؟.
محاولة حل المشكلة:
عرض القضية:
يرى موؤسس مدرسة التحليل النفسي "سيجموند فرويد" أن اكتشاف اللاشعور يمثل نظرية علمية لا يمكن إنكارها، وهذا بالنظر إلى قدرتها الكبيرة في تفسير الحالات المرضية التي عجز عنها الشعور، حيث يقول "إن تقسيم الحياة النفسية إلى ماهو شعوري وماهو لا شعوري، هو الفرض الأساسي الذي يقوم عليه التحليل النفسي، وهذا التقسيم وحده هو الذي يجعل من الممكن للتحليل النفسي أن يفهم العمليات المرضية في الحياة العقلية - وهي أمور شائعة كما أنها هامة- وأن يجد لها مكانا في إطار العلم".
ومما يؤكد صحة ما ذهب إليه سيجموند فرويد، أن أعراض الاضطرابات العقلية في الحياة النفسية ترتبط باختفاء بعض الذكريات والأحداث المكبوتة، بل أن الوقوف على هذه الذكريات والأحداث أثناء التداعي الحر يساعد في النهاية على معرفة هذه النشاطات اللاشعورية ويجعل منها أحداث شعورية، وبهذا فإن اكتشاف اللاشعور لا يختلف عن أي معرفة علمية تربط الظاهرة المدروسة بأسبابها التي تعد شرطا لحدوثها، ومن جهة أخرى فإن سيجموند فرويد قام باستقراء "دراسة" حالات مرضية "سريرية" معينة قبل أن يعمم الحكم الذي توصل إليه على جميع الحالات المشابهة، حيث يقول "إذا وجدنا لدى المريض إحدى هذه الأعراض وجب أن نستنتج وجود نشاطات لا شعورية، لأن النشاطات الشعورية لا تولد أعراض عصبية، والنشاطات اللاشعورية بمجرد أن تصبح شعورية فإن أعراضها تزول"، لم يكتف سيجموند بهذا لكنه أسس نظريته على أهمية مرحلة الطفولة ما قبل سن السادسة، بل ايقن أن شخصية الإنسان تتكون في هذه المرحلة، وإليها رد كل اضطرابات السلوكات التي تمس الراشدين.
نقد القضية:
لا يمكن إنكار قدرة اللاشعور على تفسير الحالات المرضية في الحياة العقلية، غير أن القدرة على التفسير لا تجعل منها نظرية علمية، خاصة إذا علمنا أن الظواهر النفسية ظواهر كيفية غير قابلة للملاحظة والتجربة العلمية فما بالك بتعميم نتائجها على جميع الناس سواء كانوا مرضى أو أصحاء، وقد ورد عن سيجموند ما يفند ثقته في صحة النتائج التي وصل إليها حين قال" إني أود أن أضيف بضع كلمات على سبيل النقد والتعقيب، فلقد يسأل سائل إلى أي مدى وصل اقتناعي أنا بصحة هذه الفروض التي ذهبت إليها؟ وعن هذا أجيب بأني نفسي غير مقتنع، وأني لا أعمل على إغراء من الناس بالإيمان بتلك النظريات، أو بعبارة ادق أني لا أدري إلى أي حد بلغ يقيني منها".
عرض نقيض القضية:
حقيقة اللاشعور لا تتجاوز كونه مجرد افتراض فلسفي، يفتقر إلى المزيد من الأدلة، خاصة إذا علمنا أن موضوعات الحياة النفسية بشكل عام لا تحظى بالإجماع بين العلماء، وهو ما تجسد فعليا في مدرسة التحليل النفسي التي اتفق أنصارها كارل غوستاف يونغ و ألفريد أدلر على تقسيم الحياة النفسية إلى ما هو شعوري ما هو لا شعوري، لكنهم لم يتفقوا على الليبيدو كأساس لها، حيث يعتقد ألفرد أدلر أن الإنسان كائن أخلاقي وليس كائن بيولوجي، لذا فإن أهمية الحاجة الاجتماعية أكبر بكثير من أهمية الجنس، وعليه فإن القوة الدافعة للسلوك هي الشعور بالنقص، أما كارل غوستاف يونغ فيرى أن كل إنسان يحمل معه تاريخ أجداده. وهو في نظره دليل على أن جميع الشعوب تمتلك تصورات متشابهة حول المحاربين، العظماء ، الحكماء...الخ، وهذه النماذج هي جزء كبير من الشعور الجمعي الذي تشترك فيه البشرية، من جهة أخرى نجد كارل بوبر الذي عمل مساعدا مع ألفرد أدلر يرفض تصنيف اكتشاف فرويد مع النظريات العلمية المؤكد، أما سبب ذلك فيتمثل في الطابع الأدبي القصصي الأسطوري الذي يغلب عليها، يقول بوبر: «في صيف عام ١٩١٩ بدأ يداخلني شعورٌ بعدم الارتياح لهذه النظريات، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية. ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلًا بسيطًا: «ما بال هذه النظريات؟ ولماذا تبدو مختلفة عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبصفة خاصة عن نظرية النسبية؟»، ومما يبعد اكتشاف سيجموند فرويد عن العلمية، هو اعتماده على الاستقراء الناقص غير المعلل حين انتقل من أحكام جزئية خاصة بحالات مرضية إلى أخرى سوية، وهو استقراء لا يتناسب مع الروح العلمية.
نقد نقيض القضية:
لا شك أن تحقيق العلمية في الظواهر النفسية الكيفية أمر صعب المنال، فعلم النفس هو العلم الوحيد الذي تعدد مناهجه، ثم إن مآخذ هذا الاكتشاف لا تعد ولا تحصى، فكيف يمكننا تعميم نتائج دراسات ترتبط بطبقة معينة ضمن مجتمع معين وثقافة محددة على جميع الناس بغض النظر عن عصرهم ومكانهم وثقافتهم؟ وهل يمكن أن تكون كل زلة او هفوة تعبير عن نشاط لا شعوري فعلا؟ أغلب الظن أن الإجابة هنا تقتضي النفي.
التركيب:
لا كتشاف اللاشعور مزايا محدودة جدا، فهو وإن استطاع فهم وتفسير الحالات المرضية في الحياة النفسية، غير أنه لن يتمكن من التحكم فيها "علاجها" بنسبة تساوي أو تفوق 50%، ثم إن علم النفس يعتمد مناهج أخرى إلى جانب التحليل النفسي كالمنهج الموضوعي والمنهج التجريبي، بل هناك من رفضه بعد التجربة لمدة طويلة من الزمن كما فعل ستيكال، ما يؤكد أن اللاشعور أقرب إلى التصور الفلسفي، وأبعد ما يكون عن التنظير العلمي.
حل المشكلة:
نستنتج أن اللاشعور اجتهاد خصب يتعلق بموضوع معنوي كيفي لا يوصف بالصدق والكذب كما المعرفة العلمية، ما يجعله أقرب إلى الفرضية الفلسفية، موضوع تضارب الآراء والتصورات، مع ذلك فإن التحليل النفسي يعدنا في مجال فهم الحياة النفسية، بأكثر ما يقدمه لنا، في نفس الوقت الذي يدعونا إلى العمل المنهجي و المراجعة والتنقيح من أجل استخلاص قضايا علمية متسقة ذاتية قابلة للاختبار بما يناسب طبيعة الظواهر الإنسانية.