الموضوعية في الظواهر النفسية |
نص السؤال: هل تعتقد ان تحقيق الموضوعية في دراسة الظواهر النفسية أمر ممكن؟
فهم السؤال:
الموضوعىة نسبة إلى موضوع الدراسة، وتقابله الذات الدارسة.
القضية: الظواهر النفسية قابلة للدراسة التجريبية. لأنها ظواهر موضوعية يمكنها الفصل التام بين الذات والموضوع.
نقيض القضية: الظواهر غير قابلة للتجريب، كونها ظواهر ذاتية شخصية.
طرح المشكلة:
يعرف علم النفس بأنه الدراسة العلمية لسلوك الكائنات الحية، وخصوصا الإنسان، بهدف التوصل إلى فهم هذا السلوك وتفسيره والتنبؤ به والتحكم فيه. وقد ترتب عن قدرة هذا العلم على الفهم والتفسير اختلافا كبيرا بين الفلاسفة والابستمولوجيين وبصفة خاصة إمكانية دراسة هذه الظواهر النفسية تجريبيا، ما ولد اتجاهين متعارضين أحدهما ينفي إمكانية الدراسة التجريبية في الحياة النفسية، بينما يقر الآخر بإمكانية دراسة الظواهر النفسية بواسطة المنهج التجريبي عبر مراحله المختلفة، بل يمكن اعتباره علما موضوعيا كما هو الشأن في العلوم الأخرى، وعليه كان لابد من طرح السؤال التالي: هل يمكن إخضاع الظواهر النفسية للتجريب؟ وهل يمكن اعتبار الظواهر النفسية موضوعا مناسبا للمعرفة العلمية؟
محاولة حل المشكلة:
عرض القضية:
يرى بعض الابستمولوجيين الفلاسفة أمثال " ج.س.مل" أن الحياة النفسية موضوعا غير مناسب للدراسة العلمية التجريبية. فالظواهر النفسية ظواهر داخلية، وهي لا تشبه ظواهر المادة الجامدة في خصائصها، وهي شديدة الارتباط بالذات الدارسة لذا كانت التجريب عليها متعذرا.
يرى بعض الابستمولوجيين الفلاسفة أمثال " ج.س.مل" أن الحياة النفسية موضوعا غير مناسب للدراسة العلمية التجريبية. فالظواهر النفسية ظواهر داخلية، وهي لا تشبه ظواهر المادة الجامدة في خصائصها، وهي شديدة الارتباط بالذات الدارسة لذا كانت التجريب عليها متعذرا.
ومما يؤكد صحة هذا الأمر أن العلاقة الوطيدة القائمة بين الذات وموضوع الدراسة، ما يجعل تحقيق الموضوعية في هذا النوع من الظواهر الواقعية أمر غير ممكن، يقول جان بياجي " إن وضعية من هذا القبيل تتداخل فيها الذات بالموضوع ، هي سبب الصعوبات الإضافية التي تفرضها علوم الإنسان مقارنة مع العلوم الطبيعية". ولو لا حظنا هذه الظواهر لوجدناها متداخلة فيما بينها بحيث لا يمكن الفصل بين الخيال والذاكرة أو الإحساس والإدراك أو الذكاء. فيما يعرف عن الظواهر العلمية كونها محددة أو قابلة للتحديد (كما قال برنار) فيما يتعذر ذلك عندما يتعلق الأمر بالظواهر السالفة، وكل ما يمكن القيام به حيال هذا النوع من الظواهر هو وصفها وقد قيل " لا يوجد علم مالم تكن هناك كميات قابلة للقياس أو للتقدير الكمي "، وعلى العموم فالحوادث النفسية لا تشبه الأشياء المادية (الظواهر الطبيعية)، فهي تتميز بجملة من الخصائص تحول دون الدراسة العلمية لهذه الظاهرة، وتجعل الوقوف على القوانين التي تحدد صورتها أمرا مستحيلا. ولعل أبرز هذه الخصائص أنها موضوع لا يعرف السكون، ولا يشغل حيزا مكانيا معينا كما هو الشأن في الظواهر الطبيعية، فلا مكان للشعور أو الانتباه، ولا حجم للتذكر أو الحلم. إنها سيل لا ينقطع عن الحركة والديمومة، كثيرة التغير والتبدل لا تثبت على حال. فلو طبقنا عليها الدراسة التجريبية لقضينا على طبيعتها. زيادة على ذلك كله فحوادث الحياة النفسية باطنية داخلية لا يدركها سوى صاحبها، مما يعني أنه لا يمكن الاطلاع عليها مباشرة عن طريق الملاحظة الخارجية وهو ما يرفضه العلم. كونه يشكل عقبة كبرى أمام تطبيق المنهج التجريبي على الحادثة النفسية.
نقد القضية:
لا شك في تعقيد الظاهرة النفسية، غير ان هذا لا يعني النظر إليها كما لو كانت مادة جامدة. ومما يؤخذ على هذا الموقف هو عدم قدرته على تجاوز التصور الكلاسيكي عن المنهج التجريبي وما يتصل به من مفاهيم كالملاحظة والتجربة والقياس والحتمية والموضوعية. فهو ليس منهجا صارما كما يبدو لهم، وفي الواقع فإن العلماء في هذا المجال قد استطاعوا اقتحام بعض العوائق التي تحول دون إدخال التجريب على مستوى الظواهر النفسية.
عرض نقيض القضية:
يرى بعض علماء النفس المعاصرين (أنصار المدرسة السلوكية وعلى رأسهم جون واطسون، والمدرسة التجريبية ووندت) أن حوادث الحياة النفسية يمكن أن تكون موضوعا مناسبا للدراسة التجريبية، وهي لا تختلف عن غيرها من الظواهر الأخرى. ومن المسلمات التي اعتمد عليها السلوكيون تحديدا هو ضرورة التخلص من الشعور وآثاره لغرض تحقيق الموضوعية في دراسة الظواهر النفسية مما سيمكن علماء النفس من إيجاد آليات منهجية أكثر ملاءمة لطبيعة الظاهرة النفسية.
ومما يؤكد ذلك أن يمكن ملاحظة الظواهر النفسية من خلال آثارها الخارجية بحيث تفصل بشكل كلي عن الذات وذلك عن طريق السلوك، بمعنى أن سلوكاتنا وتصرفاتنا وردود أفعالنا وتعابير وجوهنا اقوالنا انفعالاتنا ...ما هي إلا مرآة عاكسة لحياتنا النفسية الداخلية، فإذا أردنا معرفة خبايا النفس فعلينا دراسة السلوك الإنساني وملاحظة مظاهره الخارجية التي تظهر لنا في صورة (مثير – استجابة)، ومن ثمة الوصول إلى قوانين تحدد السلوك والى حتمية تتيح إمكانية التنبؤ. ولا يكون ذلك ممكنا إلا بفضل استخدام المنهج الموضوعي الذي يساعد على دراسة الحادثة النفسية وملاحظتها في وجهها الخارجي، ولا باطنها الوجداني الشعوري. وفي هذا يقول "واطسون": "إن علم النفس كما يراه السلوكي فرع موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية، هدفه النظري التنبؤ بالسلوك وضبطه...ويبدو أن الوقت قد حان ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور". وبالفعل فقد أدخل علماء النفس القياس إلى مجال الدراسات النفسية، كقياس الذكاء وقياس بعض القدرات العقلية أو المهارات الحركية، بل دونوا بعض القوانين التي تحكم الحياة النفسية لدى الإنسان.
نقد نقيض القضية:
رغم ما قامت به المدرسة السلوكية في مجال تطور علم النفس وتحقيق الموضوعية في ظواهره، إلا أنها افرغت الحياة النفسية من مضمونها عندما تجاهلت الشعور، وجعلت سلوك الإنسان أقرب ما يكون إلى السلوك الآلي الخالي من الوعي، ثم أن أعمال السلوكيين لا تعني بأي حال من الأحوال أن علم النفس تجاوز كل العوائق. بل يمكن القول عن القوانين المتوصل إليها، أنها لا تعدو كونها مجرد تعميمات تعسفية لم تبلغ مستوى العلمية بعد.
التركيب:
القول بأن علم النفس لا يمكن أن يتأسس كعلم، بدعوى أنه يدرس ظواهر تفتقر إلى الشروط الأساسية التي يقوم عليها العلم أمر مبالغ فيه. كما أن القول بأنه يمكن أن يكون علما موضوعيا دقيقا لاعتماده على السلوك أمر ليس مبالغ فيه فقط وإنما يذهب بأهم خاصية للظواهر النفسي. فالظواهر النفسية من طبيعة خاصة، تختلف في جوهرها عن العلوم الأخرى، نظرا لتداخل عناصرها وتشابكها، لعل هذا ما يفسر تعدد المدارس والمناهج في علم النفس دون غيره من العلوم. رغم هذا كله فالدراسة الموضوعية ممكنة مع تطور الدراسات والمناهج.
حل المشكلة:
بالنظر إلى طبيعة الدراسات التجريبية التي تتماشى وطبيعة الموضوع، وبالنظر إلى المحاولة الجادة التي تسعى لتحقيق الموضوعية في هذا العلم وما حققته من نتائج نسبية يمكن الحديث بحذر شديد جدا، عن موضوعية في الظواهر النفسية لا تشبه الموضوعية المعروفة في دراسة ظواهر الأجسام الحية أو الجامدة.