طرح المشكلة:
يندرج النص الذي بين
أيدينا ضمن مجال فلسفة المعرفة حيث يعالج موضوعا ابستمولوجيا بالغ الأهمية وهو
مشروعية الاستقراء العلمي، وتعود الجذور التاريخية لهذا الموضوع إلى العصر الحديث
حيث كان الفيلسوف الإنجليزي التجريبي دافيد هيوم، أول من أثار الشك في نتائج الاستقراء العلمي،
لينقسم الفلاسفة والعلماء الوضعيين بعده بين مؤكد لهذه المشروعية وناكر لها، في
خضم هذا الصراع الفكري كتب الابستمولوجي الفرنسي المعاصر كارل بوبر نصه هذا ليبين
موقفه من الدراسات الاستقرائية، عندما أجاب عن سؤال مفاده: هل هناك ما يبرر انتقال
الدراسات الاستقرائية من القضايا الخاصة الجزئية إلى الأحكام العامة الكلية؟
موقف صاحب النص:
يرى الإبستمولوجي الفرنسي
كارل بوبر أن لجوء العلماء الوضعيين إلى خطوات الاستقراء العلمي، أو إلى الدراسات
التجريبية من أجل التأكد من صحة الظواهر التي يدرسونها ومن ثمة التأكد من صدقها أو
كذبها بناء على ما لم يشاهدونه ليس له ما يبرره، من الناحية المنطقي العقلية،
وقد لمسنا هذا في قوله " الحقيقة أن مفهوم التكرار مفهوم عقيم في العلم لا
يفسر شيئا، فلا ينبغي أن يعول عليه "، بل لعل هذا النوع من الدراسة من شأنه
أن يعيق تقدم العلم ويفقده أهم سماته وخصائصه.
حجج وبراهين صاحب النص:
اعتمد كارل بوبر في
اثبات موقفه على العقلية حين رفض الاستقراء من الناحية المنطقية كونه حكم على
الحاضر المشاهد أو المستقبل من خلال ماض غائب
غير مشاهد مما يولد الارتياب وعدم اليقين في النتائج المتوصل إليها، ليس هذا فقط
بل هو غير واقعي من الناحية التجريبية أيضا، ففي حال عدنا إلى نتائج نظرية علمية
محددة واخضعناها للملاحظة والنظر العلمي الدقيق، فنحن هنا أمام حالتين الأولى أن
تبطل النظرية عن طريق الملاحظة، وهذا أمر منطقي، أما في حال الاتفاق فهذا الأمر لا
يؤكد مشروعيتها، غير أنه يؤجل دحضها وتكذيبها إلى حين توفر الوسائل المناسبة،
والتاريخ يؤكد لنا أن النظريات العلمية لا تثبت على حال وهو ما يتعارض مع منطق
القائلين بمشروعية الاستقراء، لم يكتف بهذا لكنه عاد إلى أفكار اشهر المدافعين عن
مشروعية الاستقراء بنية الرد عليها، وهما رايشتنباخ وراسل اللذان يعتقدان أن
المساس بالاستقراء فيه تهديد للعلم، غير أن هذا من شأنه في نظر بوبر أن يجعل العلم
أكثر قدرة على نقد نفسه وتجاوز أخطائه وأكثر موضوعية.
جاء النص على الصياغة
المنطقية التالية
- إذا اكانت الدراسات الاستقرائية تعتمد على التكرار فلا ينبغي التعويل عليها، في العلم.
- لكن الاستقراء يعتمد على التكرار.
- إذن لا ينبغي التعويل على الاستقراء في البحث العلمي.
نقد وتقييم النص:
يبدو
أن كارل بوبر قد أجهز على آمال راسل ورايشتنباخ وكل من برر الاستقراء من خلال
الحجج المتنوعة التي استند إليها، حيث جمع بين ما هو مادي واقعي، وما هو عقلي ليبين
تهافت طرحهم، غير أن نظرة بسيطة تبين أن هذا الواقع الذي استند يقف ضده، كيف لا
والعلم لم يعرف ولن يعرف منهجا آخر غير الاستقراء، ورغم كثرة النقائص والعيوب
والتناقضات التي تتضمنها الدراسات الاستقرائية، غير أن الاستقراء يظل المنهج
الوحيد المناسب لطلب الموضوعية في المعرفة العلمية.
يبدو لي أن مشروعية
الاستقراء لا تستمد من الصراع الفكري بين ما هو عقلي وما هو تجريبي، بقدر ما ترتبط
بمنهج يؤلف بين ما هو عقلي وما هو تجريبي أما تباين النتائج واختلافها فيرتبط
بطبيعة الموضوع "الظواهر" الذي يدرسه الاستقراء وليس الاستقراء ذاته.