أثر اللاشعور على الإدراك
يختلف المطلوب هنا (أثر اللاشعور على الإدراك) عن قيمة اكتشاف اللاشعور، بين الطرح العلمي والطرح الفلسفي وإن كانا يجتمعان في الحديث عن إيجابيات اللاشعور وسلبياته، لكن قيمة اللاشعور تنظر إليه من منظور مقارنته بالنظريات العلمية في مناهجها وطرقها ونتائجها ، أما هنا سنكتفي بالحديث عن ايجابياته وسلبياته:
أولا- آثار اللاشعور الإيجابية على الإدراك:
تأسيس الحياة على اللاشعور إلى جانب الشعور، واعتباره أهم فيها، له آثار إيجابية على إدراك الفرد السوي أو الكائن الواعي ، والحديث عن اللاشعور هو حديث عن الإبداع.
وكما يعلم المختصين فإن النظريات السيكولوجية في الفن و الاستاتيقا أو ما يعرف بعلم الجمال ، تستند إلى منطلقات سيغموند فرويد الذي يرد الإبداع الفني إلى اللاشعور ، معنى ذلك أن إبداع الفنان للوحاته الفنية يبرره بطغيان حيز اللاشعور وما يقوم عليه من ميول ورغبات منبوذة أو مكبوتة، وبعبارة أدق إلى ضغط عقدة أو مركب أوديب أو الرغبة الشبقية المكبوتة على الحياة النفسية الواعية لدى الفنان من جهة و إلى ضغط الواقع الخارجي عليه من جهة أخرى، أو ما سماه بصراع مستويات الجهاز النفسي، لهذا كان العمل الفني في نظره مجرد وسيلة لإشباع تلك الرغبات المكبوتة.
ويعتبر المهندس والرسام العالمي ليوناردو دافنشي نموذجا ودليلا ، حيث يضعه سيغموند فرويد كشاهد على صحة فرضياته، من خلال تحليله النفسي التاريخي لمرحلة الطفولة لدى هذا الفنان - دافنشي - والتي تعتبر مرحلة فارقة في حياة هذا العبقري الذي كبت مشاعره، وذكريات طفولته الأليمة، لمدة طويلة لكنها دفعها إلى الارتواء من خلال لوحة الموناليزا ، فتلك الابتسامة الفريدة، أحيت ذكرى والدته المتوفاة والتي تربطه علاقة قوية جدا معها.
فالرغبات المكبوتة حسب فرويد تتحول إلى دوافع تحفز الفنان أو العالم أو ... الإنسان عموما في البحث والمعرفة وإشباع الفضول.
كما أن كتاب هذا الفنان أي دافنشي المعروفة ب"رسالة تحليلية لذكريات طفل " يعد أحد الكتب المؤسسة لعلم النفس بل تؤكد أن اللاشعور له أثر على الإدراك من حيث أنه طرح نظرية كون الأعمال الفنية هي نتاج الماضي الذهني لصاحبها والمخزن في اللاشعور.
وعلى العموم فإن الإبداع يتمثل في عقدة أوديب وتداعياتها، وما تتضمنه من التسامي وتمظهره على أرض الواقع وهي مظاهر في حقيقتها لا تتجاوز كونها، وسيلة للتنفيس عن الحاجة النفسية. هذا ما يؤكده فرويد بأن الإبداعات الفكرية ناتجة بالأساس عن اللاوعي/اللاشعور المتجلي في الإلهام الجارف .
* وعلى العموم فإن الأثر الإيجابي للاشعور على الإدراك يتمثل في ظاهرة الإبداع الفني، الذي يخلق التوازن النفسي.
* بالإضافة إلى ذلك فقد استطاع التحليل النفسي أن يكشف عن فعاليتها وجدواها في المجالات التالية:
* علاج بعض الاضطرابات العصبية ابتداء من مرض الهستيريا، الفوبيا والوسواس القهري والرهاب الاجتماعي والخوف..وبالتالي مساعدة الفرد غير السوي، على تجاوز تلك الأمراض لكي يكون إدراكه للعالم سوي ، عبر التنفيس عن المكبوتات ونقلها من ساحة اللاشعور إلى ساحة الشعور عن طريق التداعي الحر.
.
* تعديل الكثير من سلوكات المجرمين، وذلك بردها إلى المصحات والمستشفيات المتخصصة قصد العلاج ، لم يقتصر الأمر على السلوكات غير السوية فقط، لكنه صاحب المجتمعات في مصانعها ومدارسها وأسرها.
لفت الانتباه إلى مرحلة الطفولة لأن الماضي الأليم و المليء بالمآسي المكبوتة ، كله يتحول ويتخبا في العقل الباطن أو اللاشعور وبالتالي ، مما يدفع بالفرد إلى القيام بالعمليات الدفاعية اللاشعورية والتي من خلالها يحاول التكيف مع العالم الخارجي المتمثلة في النكوص و الاسقاط و التعويض..الخ
* اللاشعور مكن علماء النفس من فهم وتفسير الكثير من السلوكات العرضية و الطبيعية التي عجزوا عن فهمها باعتماد الشعور فقط، مثل فلتات اللسان، الأحلام، زلات الأقلام، ... إلى غير ذلك من الأعراض الطبيعية.
ثانيا-آثار اللاشعور السلبية على الإدراك:
* مفهوم الهو الذي لا يتجاوز كونه سجنا لكل ما هو غير مهذب ولا مرغوب فيه ، كل ما هو محظور غير منطقي غير مقبول اجتماعيا أو أسريا أو واقعيا، يجعل منه أكبر خطر يهدد إدراكنا للعالم الخارجي و تكيفنا معه.
* مفهوم اللاشعور القائم على أساس واحد وهو الكبت ، يؤثر سلبا على الإدراك، فمدام الفرد يكبت رغباته فهو يشكل صراع داخلي ذاتي يولد له مجموعة من الأمراض النفسية تعرقل تكيفه مع العالم الخارجي.
* الكبت والمقاومة وما يترتب عنها من اضطرابات تظهر على السلوك في حالتي الاستواء والشذوذ حتى إننا نراه ينجز أكثر مما ينجزه غيره من وسائل وحيل دفاعية، بغرض التكيف مع العالم الخارجي أو الهروب منه مثل النكوص و الاسقاط و التعويض..الخ
.
* يحرف اللاشعور الإدراك من خلال مبدأ الكبت، أي كبت الدافع وما يترتب عن ذلك من مقاومة قبل وصوله إلى ساحة الشعور، فتتغير معرفة الإنسان بنفسه، عندها يتم التعبير عن المكبوتات بطريقة رمزية، أو حيلة عقلية دفاعية ، أو سلوك غير سوي.
* دور اللاشعور السلبي يتمثل في كونه يعبر عن جوانب مرضية تحتاج دائما إلى العلاج.
* كما أن اللاشعور قد يكون مجرد حيل وخداع تستعملها الذات للهروب من المواقف ، في حال عدم قدرتها على المواجهة.
* أحداث الطفولة وتأثيرها كبير على حياة البالغين وتشكيل شخصياتهم ، يتم إخفاء القلق الناشئ عن التجارب مؤلمة في ماضي عن الوعي ، وقد يسبب ذلك مشاكل واضطرابات عقلية في مرحلة البلوغ تظهر على شكل عصاب ، عندها لن نفهم سلوكاتنا ولن نستطيع وصفها للآخرين ، وقلما ما نعطي وصفا حقيقيا لدوافعنا اللاشعورية، لأن أغلب الحياة النفسية ماوراء الوعي ومبهمة وهذا ايضا يعرقل تكيف الفرد مع الآخر وايضا مع ذاته بوصفه آخر ..
معنى هذا أن للاشعور أثرا سلبيا في إدراكنا للعالم الخارجي و تكيفنا معه.
خلاصة القول
ومنه نستنتج ان تأسيس الحياة على اللاشعور إلى جانب الشعور تتضمن مجموعة آثار إيجابية إلى جانب مجموعة أخرى من الآثار السلبية على الإدراك إلا أن مفهوم سيغموند فرويد الجديد حول اللاشعور أصبح جزءا لا يتجزأ من المفردات الثقافية للمجتمع الغربي ، فقد اعتمدت نظرية التحليل النفسي لدى فرويد على علم النفس التجريبي، مما مكنها من تفسير جوانب هامة من الشخصية الإنسانية ظلت مبهمة إلى وقت قريب جدا ، نقول هذا بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي تعرضت لها من الناحية العلمية والمنهجية.