لم يفصل العقل اليوناني قديما بين الفلسفة والعلم إلى هذا الحد الذي نعرفه اليوم، فكان المنشغل بالعلم هو نفسه الفيلسوف، في نفس الذي شغل العالم مقعد الفيلسوف، هذا الارتباط عمل به المسلمون ثم الحضارة الغربية الحديثة" فقد كان رجال العلم فلاسفة، وكان الفلاسفة علماء"، لكن مع بزوغ فجر الوضعية المنطقية وباقي المذاهب الوضعية المعاصرة، بدأت الفوارق تتسع بين العلم والفلسفة، لدرجة أن البعض تصور أن الدور الوحيد الذي تستطيع الفلسفة القيام به اليوم هو تحليل الفكر واللغة، والاهتمام بالأخلاق، فهل بإمكان العلم أن يجعل من الإنسان أنسانا وهو "أي الإنسان لا يمكن أن يصير إنساناً حقّـاً إلاّ بالتربية، إنّه ما تصنع منه التربية" على حدّ قول "إيمانويل كانط"؟ وهل يمكن للحضارة المادية المعاصرة أن تسعد الإنسان بالتقنية وتطبيقاتها فقط؟ ألا تعد خطرا حقيقيا يداهمه، في نفس الوقت الذي يداهم من حوله؟.
لمناقشة أهمية الفلسفة في عصرنا هذا لا من الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي الفلسفة؟ ما دورها في حياة الإنسان المعاصر؟ وما هي التحديات التي تواجهها الفلسفة اليوم؟ وهل يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه في الماضي القريب؟
تعريف الفلسفة:
من الناحية اللّغوية:
يقول الفارابي في المعنى اللغوي لكلمة فلسفة : "اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية وهو على مذهب لسانهم مركب من فيلوصوفيا. فيلا تعني الإيثار وصوفيا الحكمة ".
على أن طلب الحكمة يعني البحث عن الحق والعمل به، والمعرفة العميقة الواسعة بحقائق الأمور والعمل بما يتلاءم مع هذه المعرفة طلباً لأقصى درجات الكمال التي يمكن أن يتصورها الإنسان.
ويُعتبر العالم الرياضي والفيلسوف اليوناني فيثاغورس أول من استخدم مصطلح فيلسوف بمعنى محب للحكمة، ورفضه مبرر ذلك بأن الحكيم هو الله. بينما يكفي الإنسان أن يكون محباً للحكمة وساعياً وراءها.
من الناحية الاصطلاحية:
لم يتفق الفلاسفة على تعريف واحد، بل ذهب كل واحد منهم إلى تعريف الفلسفة حسب معتقداته ومذهبه والثقافة السائدة في عصره وزمانه.
"البحث في الطرق العملية التي تؤدي إلى السعادة" أبيقور.
"هي علم الوجود بما هو موجود " أرسطو.
"فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. أي من جهة ما هي مصنوعات، فإنّ الموجودات، إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها وأنّه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك". ابن رشد.
"هي موقف يقفه الإنسان من الحياة ليثبت جدارته بحياة متميزة عن باقي الكائنات الحية الأخرى" ابن سينا
"هي العلم بالقضايا المدعمة بالحجج العقلية" توادوفسكي.
"هي فعل تأملي عقلي شامل للوجود الطبيعي والماورائي، الوجود المحسوس والمعقول، المادي والمعنوي. يعتمد هذا الفعل على الحس الإشكالي والتحليل المنطقي العميق، والنقد البنّاء من أجل الوصول إلى الحقائق الكليّة والعلل البعيدة للوجود بمختلف أصنافه.
"هي نمط متميز من التفكير تهتم بقضايا الوجود والقيم والمعرفة، وكل ما يخص الإنسان".
دور الفلسفة في حياة الإنسان المعاصر :
تلعب الفلسفة دور كبير في حياة الإنسان اليوم من خلال المجالات والمستويات التي تحاول الإحاطة بها، مثل المستوى الفردي و المستوى الاجتماعي بالإضافة إلى المستوى الإنساني.
المستوى الفردي:
- في مراحل التعليم المختلفة بداية من الثانوية وصولا إلى الجامعة، تعمل الفلسفة على تنمية جملة المهارات العقلية "القدرة على الإقناع والرد والفهم والتحليل …." والقدرات الفكرية "التفكير المنطقي النسقي الطرح العميق للقضايا …" لدى المتعلم.
- توسع معارف المتعلم وتدفعه إلى إدراك العلاقة بين ما يدرس من علوم مختلفة "فلسفة المعرفة أو الابستمولوجيا" من حيث المضمون المعرفي، واحدة من جهة الغاية "خدمة الإنسان والإنسانية".
- تعمل على تنمية التفكير العقلاني المنظم في حياة المتعلم الشخصية و الاجتماعية، و تمده مقومات الروح العلمية وخصائص الروح الفلسفية.
- تعزز انتماء المتعلم إلى المجتمع العالمي مجتمع الإنسانية، فكل القضايا التي تطرحها تخصه كإنسان، قبل أن تخص الإنسانية التي ينتمي إليها، كما تعزز وعيه لذاته وثوابته وخصوصياته في نفس الوقت الذي تمنعه من الذوبان في الغير الذي يشاركه الوجود.
- توسع رصيده المعرفي والفكري، وتصقل مواهبه الثقافية والعلمية والفلسفية وتنمي قدراته اللغوية، والاستدلالية الفكرية وتجعله يحترم الآخر الذي قد يخالفه الرأي لكنه يحترم خصوصياته وثوابته.
- ممارسة فعل الفلسفة يعمل على تنمية قدرة المتعلم على الأشكلة و الصورنة والبرهنة.
- ممارسة الفلسفة تعمل على تنمية قدرة المتعلم على القراءة "المنطقية واللغوية و …" والفهم والتعبير والاستدلال الصحيح مع تجاوز هذا الموقف أو ذاك.
- ممارسة فعل الفلسفة يساعد على تنمية قدرة المتعلم على التحليل والتركيب والتصنيف والتنظيم والتعليل التجاوز والاستنتاج والربط والفصل.
- ممارسة الفلسفة كسلوك تساعد على تنمية قدرة المتعلم على الرد والنقد والشك المنهجي، مع التروي قبل إصدار الأحكام واتخاذ هذا الموقف أو ذاك.
يتبع .../... الجزء الثاني