مقالة فلسفية حول العلاقة بين اللغة والفكر

ابو محمد المعتصم
الصفحة الرئيسية



السؤال: هل بإمكان اللغة أن تعبر عن جميع أفكارنا؟.

فهم السؤال:
لا ليس في إمكان لغتنا أن تعبر عن جميع أفكارنا. موقف الإتجاه الثنائي الذي يفصل اللغة عن الفكرويعتبرها متأخرة عنه.
نعم بإمكان اللغة التعبير عن جميع أفكارنا. موقف الاتجاه الأحادي الذي يجمع بين اللغة والفكر.

مقالة فلسفية حول العلاقة بين اللغة والفكر





طرح المشكلة :
لابد أن بعضنا قد مرّ بالتجربة التالية ؛ وهي التردد أثناء كتابة رسالة أو مقالة، فنتوقف أثناء التعبير أو الكتابة بحثا عن الكلمة المناسبة، وقد نعدل عن بعض العبارات فنشطبها أو نغيّرها بأخرى تبدو لنا مناسبة، بل قد يعتذر البعض عن خطابه فيراه قاصرا ، خانته فيه الألفاظ وقصرت الكلمات عن تبليغ المعاني أو المشاعر. وهذه التجربة تدفعنا إلى التساؤل عن علاقة اللغة بالفكر، باعتبار أن الفكر هو إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها. ويُطلق على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية كما جاء في المعجم الفلسفي
لجميل صليبا او الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات. أما اللغة فهي جملة من الرموز والإشارات التي تستخدم للتعبير عن الفكر، هذه العلاقة شغلت بال الفلاسفة منذ القديم ، بحيث فسّر بعضهم عدم التناسب بين ما نملكه من أفكار مع ما نملكه من ألفاظ، بانفصال اللغة والفكر، واعتبر البعض الآخر ارتباط وتداخل اللغة والفكر دليل اتصالهما فهما يشكلان وحدة عضوية غير قابلة للإنفصال ، فهل يوجد توازن أو مساواة بين الألفاظ والرموز التي تشكل اللغة وبين المعاني والتصورات التي تشكل ما ندعوه فكرا ؟ هل يمكن أن تكون للإنسان معان من غير ألفاظ تقابلها أو تصدر منه ألفاظ لا معنى لها ؟ أو بصيغة أخرى ما طبيعة العلاقة بينهما؟ هل هي علاقة انفصال باعتبار أنّ الفكر واللغة جوهران مستقلان عن بعضهما البعض؟ أم أنها علاقة اتصال باعتبار أن الفكر واللغة شيء واحد؟

محاولة حل المشكلة:

عرض القضية: يعتقد أنصار الاتجاه الثنائي من فلاسفة مثاليين " أفلاطون، ديكارت " وفلاسفة حدسانيين وعلى رأسهم "برغسون" إضافة إلى ذوي الإحساس المرهف من الفنانين والأدباء خاصة الرومانسيين منهم بانفصال اللغة عن الفكر باعتبارهما جوهران مستقلان عن بعضهما، منطلقين من مسلمة أساسية؛ تفيد بأن اللغة والفكر من طبيعتين مختلفتين، فاللغة ذات طابع حسي مادي أما الفكر فهو ذو طابع روحي معنوي، لهذا فالفكر أسبق من اللغة " ويبررون هذا الانفصال بأن: الفكر متقدم عن اللغة منطقيا، فنحن نفكر أولا ثم نعبر ثانيا، لهذا يتوقف المتكلم والكاتب أحيانا بحثا عن اللفظ أو العبارة المناسبة لأداء المعنى المقصود. فالأسبقية المنطقية تستوجب أيضا أسبقية زمنية ، وهذا ما ذهب إليه أفلاطون عندما اعتبر الأفكار تابعة لعالم المثل بينما اللغة تنتمي لعالم الحس فهي مجرد أداة تعبير عن الفكر. نفس الموقف نجده عند ديكارت الذي فصل بينهما كما فصل بين النفس والجسم ؛ فالفكر روحي معنوي أما اللغة فإن تحمل طابع حسي مادي ، لكونها مرتبطة بأعضاء فيزيولوجية يشرف عليها الدماغ كما بيّن ذلك ريبو فيما بعد. ويظهر انفصالهما أيضا في تجاوز الفكر لدلالة اللفظ فاللغة هي رموز اصطلاحية توصف بأنها اجتماعية وموضوعية تعبر من المعاني المشتركة المتعارف عليها في حين أن التفكير يتسم قبل كل شيء بالخاصية الذاتية، فهو انعكاس لشخصية الفرد لهذا تبقى جوانب كثيرة مما يجده الإنسان في نفسه من المعاني العصية على التعبير. وهذا ما يعيبه الرومانسيون على اللغة ؛ ذلك أن التجربة السيكولوجية التي يعيشها الإنسان أغنى وأوسع من أن تقتنصها اللغة ، إنّه يدرك ما لا تدركه العامة وهو بهذا يسعى الى إبراز ما هو خاص يقول فاليري: " أجمل الأشعار هي تلك التي لم تكتب "وقيل أيضا "كلماتي من ثلج، فكيف تحوي في داخلها التيران " وهو نفس حال المتصوفة الذين يرتادون عوالم روحية تتجاوز عالم الكلمات فهم على حد تعبير الغزالي " أرباب أحوال لا أصحاب أقوال"، فالتجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية ، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص ، وإذا تجرأ المتصوف وعبّر عنها قد يوصف بالكفر والزندقة لعدم فهم العامة لمقصوده. ويضيف الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ذو النزعة الحدسانية حجة أخرى لتأكيد القول بالانفصال وهي أنّ الفكر فيض من المعاني المتصلة في تدفق لا تسعه الألفاظ ؛ لأنّ اللغة هي أداة العقل في التعامل مع الظواهر المادية الخارجية القابلة للتجزئة والتقدير الكمي . أما الظواهر الداخلية التي تتعلق بالوجدان والشعور فلا تُدرك إلا بالحدس، لأنّ التجربة الحية الداخلية للإنسان تيار حركي وسيل متدفق من المعاني لا تسعه الألفاظ، وهو ما يفسر مقولة "برغسون": "إن اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر". ويقصد برغسون بالديمومة الزمن النفسي الذي لا يمكن قياسه والذي تتجدد لحظاته دون انقطاع في تعاقب وتداخل مشكلة كتلة واحدة . فعجز اللغة عن استيعاب الظواهر الداخلية الحية في خصوصيتها وتفردها يجعلها أداة معرقلة للفكر ومجمدة لحيويته ، إن اللغة وُجدت لتعبر عن أشياء المكان لا عن " أمور "الزمان .

نقد القضية: لا شك أن المقارنة بين القدرة على تمثل المعاني وفهمها وبين القدرة على التعبير والتبليغ توحي ببعض ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الثنائي، لكن الجزم باستقلال الفكر عن اللغة لا تؤكده الوقائع، فكيف تمثل في الذهن تصورات لا اسم لها وكيف تتمايز فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية، فهذا الراي بالغ في تمجيد الفكر وقلل من شأن اللغة، رغم أن التفكير كما يرى "وطسن" ضرب من الكلام الصامت بل: " ... نحن نفكر داخل الکلمات" علی حد تعبیر هیغل ، و نحن عندما نفکر نحن نتحدث بصوت خافت وعندما نتحدث فنحن نفكر بصوت عال. كما أن عجز الإنسان عن التعبير كثيرا ما يعود إما الى افتقاره لثروة لغوية تسعفه على ترجمة أفکاره في قوالب لغویة او الی عدم وضوح افکاره و مشاعره لأن ما ندرکه إدراکا جیدا نعبر عنه تعبیرا واضحا كما قيل.

نقيض القضية: يؤكد معظم فلاسفة اللغة والكثير من المفكرين على أن اللغة والفكر متصلان بل يشكلان وحدة عضوية غير قابلة للإنفصال. فكما قال "أرسطو": "ليس ثمة تفكير بدون صور ذهنية" كما لا وجود للغة بدون فكر، منطلقين من مسلمة أساسية هي أن اللغة تمثل المظهر الموضوعي والوجود الخارجي للفكر، مبررين موقفهم بأنه : لا وجود لمعنى إلا إذا تميز عن غيره من المعاني ولا يكون التمايز إلا بعلامة يدركها الإنسان سواء بالتعبير عنها، أو بالإشارة إليها مما يسمح للغير بإدراكها. فاللغة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر، وهو ما يراه مؤسس علم اللغة الحديث دو سوسير الذي يرى أنّه بدون اللغة لا يمكن أن يتجسد الفكر بشكل كامل وواضح فقال: " ... لا شيء متميز قبل اللسان ... ويمكن أن نشبه اللسان بوجهي ورقة نقود: فالوجه هو الفكر والظهر هو اللسان ... " فالفكر مثل كتلة ضبابية يحتاج إلى اللغة ليعبر عن ذاته، فهي تحوله الى وحدات واضحة ، فلا وجود لأحدهما دون الآخر. هذا الطرح قال به أيضا "هيغل" الذي يعتبر كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي: " إن الرغبة في التفكير دون كلمات لمحاولة عديمة الجدوى... فالكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى والأصح" فالكلمة تمثل وجودا يتحد فيه الداخل والخارج بصورة بديعة كما قال . وهو الطرح الذي أكدته الظواهرية أيضا ، وهي المدرسة التي جمعت بين الذات والموضوع وأعادت الإعتبار للجسم باعتباره وسيطا بين "الأنا "والعالم" لهذا يرفض ميرلوبونتي القول بأسبقية الفكر على اللغة ، ويرفض اعتبار الكلام مجرد علامة على وجود الفكر مثلما الدخان علامة على وجود النار؛ بل إنّ العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة تداخل فكلا منهما محتوى في الآخر يقول "ميرلو بونتي": "الفكرة تؤخذ من العبارة، والعبارة ما هي إلا الوجود الخارجي للفكرة" وينفي وجود فكر خالص ، بل يعتبره وعيا فارغا فيقول : " ليس الفكر " باطنيا" ولا وجود له خارج العالم وبعيد عن الكلمات". بل إن اللغة تحفظ الفكر فالانسان لا يتصور بوضوح إلا ما انتظم في نسق من الألفاظ والرموز المكتسبة، يقول "هاملتون": "إن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ" وقال أيضا: "الألفاظ حصون المعاني". وما كنا لنطلع على أفكار الأقدمين واكتشافاتهم لو لم يتم التعبير عنها في قوالب لغوية فاللغة ذاكرة الإنسانية وهي أغنى من فكر أي فرد على حد تعبير لافيل . وما يزيد هذا الطرح قوةً ، هو الأبحاث النفسية التي أكدت أن تكوين المعاني لدى الأطفال يواكب اكتسابهم للغة، وفقدان اللغة يلازمه اختلال في المقومات الذهنية ، وهو ما تؤكده حالة الفتاة الهندية "كامالا"التي عاشرت الذئاب فكانت فاقدة للشعور الإنساني. فالطفل يتلقى من المجتمع وسائل التفكير التي تمكنه من إثبات أناه وتحقيق شعوره الإنساني.

نقد نقيض القضية: صحيح ان هناك تداخل بين اللغة والفكر بحيث لا يمكن تصور فكر خارج اللغة او لغة دون فكر لكن هذا لا يكفي للقول بوجود تطابق او مساواة بينهما، فالواقع يشهد ان هناك تفاوت بين قدرتنا على الفهم وقدرتنا على التبليغ، فما نفهمه من المعاني أكبر مما نحسنه من ألفاظ، وهذا ما يفسر ابداع الانسان لوسائل أخرى للتعبير عن فكره كالموسيقى، الرسم، المسرح، السينما ... وهو ما يلخصه المثل الصيني "الصورة أفضل من ألف كلمة". و قد عبّر الروائي الجزائري ياسمينة خضرة عن إعجابه بالفيلم الذي صور مشاهد روايته و الذي أظهر معاني عجزت لغته عن التعبير عنها كما قال.

التركيب : إذا كان أصحاب الاتجاه الثنائي يفصلون بين اللغة والفكر ويمجدون الفكر على حساب اللغة وكان أصحاب الاتجاه الواحدي يجمعون بين اللغة والفكر ويعتبرونهما وجهان لشيء واحد فإن الموقف الصحيح يقتضي التأكيد على التداخل الواضح بينهما. فاللغة ليست مجرد أداة للتعبير عن الفكر بل تنظمه وتوضحه من خلال القواعد المنطقية والنحوية التي تضمن فعاليته وصحته وهو ما يفسر قول دولاكروا " الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه" ، وقد أثبت علم النفس أنّه كلما زادت ثروة الفرد اللغوية كلما زادت قدرته على التفكيروالتعبير، بل هي الأداة الفعالة التي يعتمدها المحللون النفسانيون لسبر أغوار اللاشعور الفردي والجماعي . ولهذا لا نستغرب عندما نرى بعض الإتجاهات الفلسفية المعاصرة تتخذ تحليل الأفكار موضوعا وحيدا للفلسفة، لأنّ تحليل اللغة هو الطريق الى تحليل العقل او الفكر في نظر روادها ؛ فاللغة ليست ثوبا للفكر بل جسده الحقيقي على حد تعبير لافيل .

حل المشكلة :
نستنتج مما سبق أن العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة اتصال وتداخل بحيث يؤثر أحدهما في الآخر ، رغم ما نشعر به من تفاوت بين قدرتنا على الفهم وقدرتنا على التعبير. ويكفي ان نشير الى أن اللغة هي أحد المرشحات (Filters) التي تؤثر في إدراكنا للعالم الخارجي كما بيّن ذلك علم البرمجة اللغوية العصبية، هذا العلم الذي يدرس بنية الخبرة الذاتية. فاللغة والفكر متداخلان مثلما بيّن ماكس مولر قائلا :"اللغة والفكر كقطعة نقدية واحدة وجهها الأول ، الفكر ووجهها الثاني اللغة وإذا فسد أي وجه من الوجهين فسدت القطعة، فالفكر بالنسبة للغة كالروح بالنسبة للجسد "
google-playkhamsatmostaqltradent