مقال جدلي، حول العلاقة بين الإحساس والإدراك (شعبة الآداب وفلسفة فقط).

ابو محمد المعتصم
الصفحة الرئيسية


السؤال:
هل يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك؟ (شعبة الآداب وفلسفة فقط).


صيغ مشابهة مفترضة:

*هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟
*هل يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك؟
*هل التمايز القائم بين الإحساس والإدراك يجعلهما يقفان على طرفي نقيض؟
*هل الطابع الأولي للإحساس يعني خلوه من أي نشاط ذهني؟
*ما طبيعة العلاقة بين الإحساس والإدراك؟
*هل هناك علاقة بين الإحساس والإدراك؟

مقال جدلي، حول العلاقة بين الإحساس والإدراك (شعبة الآداب وفلسفة فقط).



طرح المشكلة: مقدمة
يعيش الإنسان بحكم وجوده الطبيعي في تواصل دائم مع موضوعات وأشياء العالم الخارجي، أبسط صور هذا التواصل تتمّ عبر الحواس، أي الإحساس، الذي يُعدّ السبيل الأول والنافذة التي نطلّ منها على الواقع. غير أنّ عدداً من الفلاسفة وعلماء النفس يرون الإحساس حادثة أولية بسيطة لا تمنح سوى انطباعات خام، فهو – في نظرهم – محتاج على الدوام إلى نشاط عقلي يفسّر ويؤوِّل هذه الانطباعات، وهو ما نسمّيه الإدراك. ومن هذا التمايز وُلدت مشكلة فلسفية كبرى ضمن نظرية المعرفة، شغلت الفلسفة القديمة والحديثة معاً: ما طبيعة العلاقة بين الإحساس والإدراك؟ أهي علاقة انفصال وتمايز أم علاقة اتصال وتكامل؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك؟

محاولة حل المشكلة
عرض القضية: يتفق الفلاسفة العقليون والحسيّون، على اختلاف مبرّراتهم، على وجود ما يدعو إلى التمييز بين الإحساس والإدراك. فالعقليون، قديماً وحديثاً، يرون أنّ الإحساس يختلف عن الإدراك طبيعةً وقيمةً؛ إذ لا يمدّ الإحساس بمعرفة يقينية أو كاملة، وهو عرضة للخداع والتغيّر. هذا ما عبّر عنه سقراط بقوله إنّ الحواسّ تخدعنا، وما عمّقه أفلاطون حين فضّل عالم المعقولات الثابتة على عالم المحسوسات المتبدّل، فجعل المعرفة الحسية أدنى قيمة من المعرفة العقلية. وفي العصر الحديث اعتبر ديكارت أنّ الحواس كثيراً ما تُضلّلنا، وأنّ مصدر اليقين هو العقل المجهّز بأفكار فطرية، مؤكداً أنّ الاتكال التام على الحواس ليس من الحكمة. ويذهب ألان إلى المنحى نفسه عندما يؤكد أنّ الإنسان «يدرك» ولا «يحسّ» فحسب؛ إذ إنّ رؤية المكعّب مثلاً بالعين المجرّدة قد توهمنا بثلاثة أوجه وستة أضلاع، بينما حقيقته ستة أوجه واثنا عشر ضلعاً.
أما الحسيّون، فعلى الرغم من اختلافهم المذهبي مع العقليين، فإنّهم يوافقون على التمييز بين الإحساس والإدراك من زاوية أخرى. فالعقل، عندهم، صفحة بيضاء تكتب التجربةُ عليها ما تشاء، ولا وجود لشيء في الذهن ما لم يوجد في العالم الخارجي. لذلك أنكر جون لوك وجود الأفكار الفطرية ورأى في الإحساس أساس كل معرفة، معبّراً عن ذلك بقوله إنّ بداية المعرفة تقترن ببداية الإحساس، وأنّ التجربة هي المصدر الوحيد لمعارفنا. ويمضي ديفيد هيوم في الاتجاه ذاته حين يؤكد أنّ الأفكار لا تظهر في الذهن إلا إذا قابلتها انطباعات حسية، فيصبح الإحساس الجسر الضروري لكل معرفة.

نقد القضية الأولى

على الرغم من الاختلاف الحقيقي بين الإحساس والإدراك، فإنّ هذا الاختلاف لا يقتضي الفصل بينهما كما ذهب إلى ذلك العقليون والحسيّون. فالفصل قد يكون متأثراً بخلفيات مذهبية: فالعقليون يرفعون من شأن العقل كأنّه معصوم من الأهواء، والحسيّون يغرقون في تمجيد التجربة حتى يجعلوا فقدان الحسّ مرادفاً لفقدان المعرفة. والحق أنّ اختلاف الوظائف لا يعني الانفصال التام بين المستويين.

عرض نقيض القضية: يرفض كثير من علماء النفس المحدثين والمعاصرين إمكان الفصل بين الإحساس والإدراك. فمدرسة الجشتالت ترى أنّ الإدراك ليس تجميعاً ميكانيكياً لإحساسات مفكّكة، بل هو «صورة» أو «كلّ» متكامل تُفهم الأجزاء في ضوئه. فالإنسان يدرك الموضوع في صيغته الكلية قبل أجزائه، كالأنغام في قطعة موسيقية لا معنى لها إذا عُزلت. ومن هنا إبرازهم لمبادئ تنظيم المجال الإدراكي: فموضوع الإدراك يبرز دائماً على خلفية تمنحه الوضوح، وتقارب العناصر وتشابهها يسهمان في انتظامها إدراكياً، والنمط الناقص يُستكمل ذهنياً وفق «الإغلاق». بذلك يصبح الإدراك نتاجاً لتأثيرات موضوعية يفرضها شكل البنية المدركة، لا مجرد حصيلة خام للمعطيات الحسية.

وفي الاتجاه نفسه، يذهب الظواهريون، وفي مقدّمهم هوسرل وميرلو-بونتي، إلى أنّ الإدراك علاقة حيّة بين شعور وموضوع، فلا إحساس خالصاً بلا قصدية، ولا إدراكاً ذهنياً معزولاً عن الحواس. فكل شعور هو شعور بشيء، وما يتبدّل فينا هو طرائق إدراكنا لا الأشياء ذاتها. لذا يكتفون بوصف ما يظهر كما يظهر، بعيداً عن الفروض المسبقة، ويرفضون الفصل بين الإحساس والإدراك لأنّ كلاً منهما يحضر في الآخر حضورا بنيوياً.

نقد تانقيض: مع وجاهة ما قدمه الجشتالتيون والظواهريون، يبقى طرحهم غير كافٍ وحده. فالتأكيد على البنيات الخارجية في الجشتالت لا ينبغي أن يُضعِف دور الذات والعقل في تشكيل المعنى؛ إذ لا يعمل الذهن كإطار سلبي. بالمقابل، يميل الظواهريون إلى تغليب الشعور الذاتي، ما قد يهدّد الموضوعية بالنظر إلى اختلاف الذوات وتبدّل أحوالها النفسية.

التركيب:

يُستنتج من مجموع المواقف أنّ الفصل الواقعي بين الإحساس والإدراك متعذّر، لأنّ الذات البيولوجية لا تنفصل عن الذات السيكولوجية. ومع ذلك فتمييزهما ممكن من حيث الطبيعة والوظيفة: الإحساس يمدّنا بالمواد الخام للمعرفة عبر قنوات الحواس، والإدراك يمنح هذه المواد معناها عبر التأويل والتنظيم. إنهما وجهان لعملية معرفية واحدة: لا إدراك بلا وسائط حسية، ولا إحساسات ذات دلالة ما لم تُتوَّج بنشاط ذهني منظِّم.

حل المشكلة

يتبيّن في نهاية المطاف أنّ التمايز القائم بين الإحساس والإدراك لا يضعهما على طرفي نقيض. فالبحوث النفسية والعلمية تثبت استحالة فصلهما عملياً؛ وما يظهر من فصل في بعض الطروحات الكلاسيكية إنما هو فصل نظري تحكمه النزعات المذهبية أكثر مما تمليه الوقائع. وعليه، يتعيّن تجاوز ثنائية «الحسي/العقلي» الصلبة نحو فهم تكاملي يرى في الإحساس مادة الإدراك وفي الإدراك صورة الإحساس ومعناه.

google-playkhamsatmostaqltradent