مقال جدلي حول العوامل المتحكمة في شعبة آداب وفلسفة( موضوع الإدراك الحسي )

ابو محمد المعتصم
الصفحة الرئيسية

 

صيغة السؤال

هل الإدراك محصّلة لنشاط الذهن أم تصوّر لنظام الأشياء؟

صيغ وأسئلة متقاربة

  • هل إدراكنا تابع لموضوعات العالم الخارجي فحسب؟
  • هل تقتصر عملية الإدراك على الموضوع المُدرَك وحده؟
  • هل تتوقف العملية الإدراكية على انتظام الأشياء فقط؟
مقال جدلي حول العوامل المتحكمة في شعبة آداب وفلسفة(الإدراك الحسي)


مقدّمة: طرح المشكلة
يُعدّ الإدراك من أهمّ العمليات النفسية التي بواسطتها يعرف الإنسانُ العالمَ الخارجي ويتكيف معه. فهو يتجاوز الإحساسَ من حيث إنه ينظّم المثيرات الحسية ويؤولها. وقد عرّفه جميل صليبا بأنه «حصول صورة الشيء في العقل، سواء أكان ذلك الشيء مجرّدًا أم ماديًا، جزئيًا أم كليًا، حاضرًا أم غائبًا». غير أن الإدراك يختلف باختلاف الأفراد لوجود عوامل وشروط تؤثر فيه، وهو ما أثار جدلًا فلسفيًا: فهناك من ردَّ الإدراك إلى عوامل ذاتية تتعلق بالمدرِك، ومن أرجعه إلى عوامل موضوعية تخصّ بنية الموضوع المُدرَك. ومن ثمّ تبرز الإشكالية: هل الإدراك ثمرة عوامل ذاتية أم هو مجرّد تمثّل لبنية الأشياء الخارجية؟ أو بعبارة أخرى: هل يتأسس الإدراك على الذهن وحده أم على المعطى الموضوعي وحده؟

محاولة حل المشكلة: العرض
عرض القضية: الإدراك محصّلة لنشاط الذهن
يرى أنصار هذا الموقف (ديكارت، ألان، باركلي) أنّ الإدراك نشاطٌ عقليّ مركّب تشترك فيه قدراتٌ عليا كالخيال والذكاء والذاكرة والانتباه، وأن هذه العوامل تفسّر تباين إدراكات الناس للموقف الواحد.
  • الإدراك حكمٌ عقلي: لا تكفي المعطيات الحسية بذاتها، بل تُفهم عبر أحكامٍ يصدرها الذهن. نستدلّ على ذلك بقول ألان: «الإدراك حكم عقلي». فنحن حين نرى شكلًا يبدو ذا ثلاثة أوجه وتسعة أضلاع نحكم بأنه مكعّب، مع أنّ المكعب في الحقيقة ستة أوجه واثنا عشر ضلعًا؛ نعتمد هنا على خبرةٍ سابقة تُتمّ ما لا تراه العين لحظةً.
  • دور الخبرة والذاكرة: ندرك الأشياء في ضوء ما ألفناه. من يدخل قسمًا ويرى معادلات على السبورة يدرك أنه درس رياضيات لمن كانت له خبرة بها، أمّا من يجهلها فيرى ما نرى ولا يدرك ما ندرك.
  • أطروحة باركلي في تقدير المسافات: يؤكد باركلي أنّ إدراك المسافات يتأسس بالتعلّم؛ فالأكمه إذا استعاد بصره يخطئ في تقدير الأبعاد لغياب الخبرة السابقة، وكذلك الطفل في طور اللاتمايز.
  • الانتباه والإرادة والحالة النفسية: تتطلّب أشياء كثيرة تركيزًا متعمّدًا (الطبيب في التشخيص، والميكانيكي في تحديد العطب). كما تتلوّن المدركات بانفعالاتنا: فالحزين يرى العالم قاتمًا، والفرِح يراه بهيجًا. وما لا يلامس ميولنا يبقى على هامش الشعور.
  • الاهتمامات والعواطف والتوقّع والعمر والثقافة والعادة:
    يرى الفنان في الطبيعة ألوانًا وإضاءات، ويرى القائدُ مواقعَ وتموضعات، ويرى المهندس إمكاناتٍ عمرانية، ويرى الفلاح حقولًا خصيبة. العاطفة تحرّف الانتقاء: نُبدي محاسن من نحبّ ونبرز مثالب من نكره. ونتعثّر في إدراك ما لم نتوقّع لقاءه. كذلك يختلف إدراك الراشد عن الصبي، والمثقف عن الجاهل. والعادة توجه المسارات الإدراكية (كمن اعتاد البدء من اليمين أو من اليسار).
نقد الموقف الأول: مع وجاهة العوامل الذاتية، إلا أنّ الذهن وحده لا يكفي؛ فقد تتوافر شروطٌ ذاتية ولا يتحقق إدراكٌ واضح بسبب خصائصٍ كامنة في الموضوع ذاته (تعقيده، غموض حدوده، ضعف انتظامه).

عرض نقيض القضية: الإدراك تتحكّم فيه عوامل موضوعية

يرى الجشطالتيون ‶الشكليون‶ (كوفكا، كوهلر، فيرتهايمر، وبول غيوم) أنّ المحدِّد الحاسم هو البنية الكلّية المنتظمة في المجال البصري، وأننا ندرك الأشكال أولًا في كلّيتها قبل أجزائها.
  • الشكل/الأرضية: يتعيّن الشكلُ على خلفيةٍ مناسبة فيغدو أوضح. قطعةُ قطنٍ على ثلجٍ لا تُلتقط بسهولة، وعلى أرضيةٍ داكنة تظهر جليّة. يقول كوهلر: «إن الحقيقة الرئيسية في المدرك الحسي ليست العناصر، بل شكل الشيء وبناؤه العام».
  • أهمية قوانين الانتظام (الجشطلت) مثل:
  • الكل يدرك معناه في إطار الجزء: ندرك صورة الوجه قبل العين والأنف، والشجرة قبل الأوراق والأغصان.
  • قانون البروز: نلتقط النجمة الساطعة قبل بقية النجوم.
  • قانون التشابه: العناصر المتشابهة تُدرَك كصيغة واحدة (أرقام الهاتف المتشابهة أسهل حفظًا).
  • قانون التقارب: ما تقارب مكانًا أو زمانًا يُدرَك وحدةً (كراسي غرفة واحدة).
  • قانون الإغلاق: نميل إلى استكمال الناقص (الدائرة غير المكتملة تُدرَك دائرة).
  • الحركة والبيئة الاجتماعية: فالأشياء المتحركة أوّل ما يجذب إدراكنا (الشهاب قبل النجوم الثابتة). كما تصوغ البيئةُ والتربيةُ معايير الإدراك ومعانيه: للبدو أساليب إدراك تختلف عن الحضر تبعًا لخبرات العيش ونُظُم الرموز.
نقد نقيض القضية:
الإلحاح على أهمية العالم الخارجي والموضوعات وحدها يُفضي إلى اختزال الذات المدرِكة في «آلة تلقٍّ» سلبية، ويُهمل المبادرةَ الذهنية ودور التاريخ الشخصي والمعنى القصدي.

التركيب:

الإدراك عملية تفاعلية متعددة الأبعاد قوامها تلاقي الذات القاصدة والموضوع المتعيّن. وهذا ما تؤكده الظاهراتية عبر مبدأ القصدية: كلّ شعور هو شعورٌ بشيءٍ ما (هوسرل). فلا يُفهَم الإدراك من غير ذاتٍ تقصد، ولا من غير موضوعٍ يُقصَد. إنّ انتظام الموضوع يتيح للإدراك أن ينجح، ولكن الذهن بخبرته وتوقّعاته يملأ الفجوات ويؤوّل الدلالة.

خاتمة: حلّ المشكلة

نخلص إلى أنّ الإدراك ليس محصّلةً خالصةً لعوامل ذاتية، ولا هو انعكاسٌ آليّ لبنية الأشياء؛ بل هو ثمرةُ تفاعلٍ حيٍّ ودائمٍ بين الشروط الذاتية (الانتباه، الذاكرة، الخبرة، الانفعال...) والشروط الموضوعية (الشكل، الأرضية، قوانين الانتظام، الحركة، السياق الاجتماعي). وعليه فكل إدراكٍ هو إدراكٌ لشيءٍ من منظور ذاتٍ، ولا إدراك بلا موضوع تتوافر فيه خصائص تساعد على التعيّن والوضوح.


google-playkhamsatmostaqltradent