السؤال
هل يمكن الاستغناء عن الفلسفة؟
مقال موجه لأقسام السنة الثانية آداب وفلسفة، نهائي علوم تجريبية، تقني رياضي.
صيغ مشابهة.
هل يجعل تقدّم العلوم وانفصالها عن الفلسفة التفلسف بحثًا لا طائل منه؟
هل ما يزال لوجود الفلسفة ما يبرّره بعد أن استحوذت العلوم الحديثة على موضوعاتها؟
هل يُعدّ تقدّم العلم حجّةً ضد الفلسفة؟
هل يستطيع الإنسان المعاصر التخلي عن الخطاب الفلسفي؟
هل انتهى عصر الفلسفة؟
يرى أنصار هذا الاتجاه من العلماء الوضعيين (مثل غوبلو، وباشلار، وأوغست كونت) أن انفصال العلوم عن الفلسفة، وما رافقه من تقدّم بفضل التجربة، قد جرّد الفلسفة من دور فعّال في حياة الإنسان. فالإنسان المعاصر وجد في العلم ما يلبّي حاجاته العملية؛ بينما لا تُفضي الفلسفة في نظرهم إلا إلى أقوال متعارضة وجدالات لا تنتهي، دون نتائج قطعية أو منافع مباشرة. ويستشهدون بقاعدة براغماتية كما عند بيرس: “الفكر في النهاية من أجل العمل”، فما عجزت عنه الفلسفة قرونًا أنجزه العلم في زمن وجيز.
ويعزّز أوغست كونت هذا الموقف بقانونه في الأحوال الثلاث: من اللاهوتية إلى الميتافيزيقية ثم الوضعية العلمية، حيث يُنظر إلى المرحلة العلمية بوصفها ذروة نضج الفكر البشري الذي ينصرف إلى كشف قوانين الظواهر عبر الملاحظة والتجربة، فيسأل “كيف؟” لا “لماذا؟”. وعليه تغدو الفلسفة لغةً ومصطلحًا غامضة ومجرّدة، حتى قال لانيو: “التفلسف تفسير الواضح بالغامض”.
أضف إلى ذلك أن أعظم منتجات الفلسفة الميتافيزيقا والمنطق الصوري قد وُجّها بالنقد؛ يقول غاستون باشلار: “الحقائق الأولى أخطاء أولى”، في إشارة إلى لزوم مراجعة المسلّمات. كما أن الفلسفة بحسب غوبلو لا تستوفي شروط المعرفة العلمية من موضوعية ودقّة وصياغة رياضية، إذ تظلّ آراء شخصية تعبّر عن ظروف أصحابها. ومع تقدّم العلوم الإنسانية بالتجربة والمنهج، استحوذت على موضوعات كانت تقليديًا من صميم الفلسفة (النفس، المجتمع، التاريخ)، فقلّ مبرّر بقاء الفلسفة.
نقد القضية:
صحيح أنّ الفلسفة تراجعت اجتماعيًا أمام الزخم التقني، لكن الدعوة إلى إلغائها تناقض ذاتها؛ إذ إنّ تبرير الإلغاء يحتاج إلى حجج وتأمّل ونقد… أي إلى تفلسف. لذلك قال باسكال: “كل تهجّم على الفلسفة هو تفلسف”.
عرض نقيض القضية “الفلسفة ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها”
يرى المدافعون عن الفلسفة (ديكارت، أرسطو، راسل وغيرهم) أنها ضرورة ملازمة للوجود الإنساني؛ فالعلم مهما اتّسع لا يجيب عن كل أسئلة المعنى والمصير والقيم. الفلسفة نمط تفكير مغاير: تُنظّم التجربة الإنسانية وتفهم علاقتنا بالعالم. وقد جعل ديكارت التفكير أساس اليقين: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، وربط ازدهار الأمم بقدرتها على التفلسف: “الفلسفة تميزنا عن الأقوام الهمجيين”.
والتفلسف نزوع فطري؛ فالطفل يسأل في الميتافيزيقا قبل أن يتعلم المصطلحات، ولذلك قال أرسطو: “لا نتوقف عن التفلسف إلا إذا توقفنا عن التنفس”. كما أن الفلسفة تُنمّي ملكات العقل والخيال وتحرّر الذهن من أسر العرف، ويؤكّد راسل أنها توسّع آفاقنا، فيما يرى كارل ياسبرز أن “الأسئلة في الفلسفة أهم من الأجوبة”، إذ تُبقي العقل يقظًا.
وظيفيًا، تضطلع الفلسفة بدور نقدي في إصلاح الواقع السياسي والاقتصادي والديني؛ ويكفي التذكير بمواقف فلاسفة كفولتير ومونتسكيو في الدفاع عن التسامح والحرّيات، وبالقراءات النقدية للظلم الاجتماعي كما في فلسفة ماركس. وفي تراثنا، شدّد ابن رشد على أنّ الشرع يدعو إلى إعمال العقل وأن الحق لا يعارض الحق؛ وفي القرآن الكريم دعوات صريحة للتدبر: {أفلا ينظرون}، {فاعتبروا يا أولي الأبصار}.
ثم إن الفلسفة تسدّ ثغرات لا يتكفّل بها العلم؛ فمسائل الحرية والعدالة والأخلاق والغاية لا تُحسم تجريبيًا، وهي قضايا مركزية للإنسان. وقد لاحظ راسل أن في الحياة مسائل خطيرة لا يعالجها العلم وحده. وحتى في مجالات عملية كالصحة النفسية، أمدّت الفلسفةُ العلومَ الإنسانيةَ بمفاهيم وأطر لفهم الإنسان ومعاناته.
نقد نقيض القضية:
مع الاعتراف بقيمة الفلسفة، فإن الإفراط في تمجيدها يتجاهل واقع المزاج العام الذي يميل إلى المنفعة والنتائج المادية السريعة، وقد أسهم ذلك في تراجع حضور الخطاب الفلسفي في الحياة اليومية.
تركيب
العلاقة بين الفلسفة والعلم تكاملية لا تنافسية. فالفلسفة تمارس النقد والتقويم وتبيّن حدود المناهج وتستكشف مفاهيم العلم ومسلّماته (وهنا يبرز دور الإبستمولوجيا)، بينما يمدّ العلم الفلسفة بمعطيات واقعية تُخصب التفكير. عبّر هيجل عن ذلك مجازًا: “تأتي الفلسفة في المساء بعد أن يكون العلم قد وُلِد فجرًا”، وقال ويل ديورانت: “فلسفة بلا علم عجز، وعلم بلا فلسفة تدمير”. كثير من الأسئلة الفلسفية تحوّلت موضوعًا علميًا، وكثير من النتائج العلمية أثارت أسئلة فلسفية جديدة؛ لذا قال راسل: “الفلسفة تسأل، والعلم يجيب” وأحيانًا يعيد السؤال إلى الفلسفة بصيغة أعمق.
وعليه، ورغم ما يعتري الفلسفة من قصور بشري وما لحق مكانتها من تراجع اجتماعي، فإنها تظلّ لازمةً للإنسان؛ إذ تبقى هناك مجالات لا ينفذ إليها المنهج التجريبي وحده.
حل المشكلة.
يمكن القول إن العلم والفلسفة مترابطان وضروريان معًا: العلم لخدمة جانب الحياة المادي بما يقدّم من أدوات ومعارف نافعة، والفلسفة لصيانة جانبها المعنوي والقيمي عبر النقد والتوجيه وإضاءة المعنى. لا علمًا مكتفيًا بذاته بلا فلسفة تُرشده، ولا فلسفة مثمرة بلا علم يُغذّيها بالواقع. ولذا خلاصة القول — كما يُفهم من مقولة وايتهد أنّ للفلسفة والعلم معًا مشروعيةً متبادلة، وفي وسع كل منهما أن يُعين الآخر.