مقالٌ جدلي حول العلاقة بين الدال والمدلول
السؤال:
هل العلاقة بين الدال والمدلول علاقة حقيقية ضرورية أم اعتباطية؟.
صيغ أخرى شبيهة:
- هل تقوم العلاقة بين الدال والمدلول على التلازم أم على الاصطلاح؟
- هل توجد ضرورة بين اللفظ ومعناه؟
- هل تحاكي الألفاظ الأشياء؟
- هل التلازم والتطابق هو الشكل الوحيد لعلاقة الدال بالمدلول؟
![]() |
طرح المشكلة: (مقدمة)
يحتاج الإنسان، بوصفه كائناً اجتماعياً، إلى التواصل والتعبير عن أفكاره، ولا يتحقق ذلك إلا عبر اللغة التي تُعد ميزة إنسانية خالصة. تتكوّن اللغة من عنصرين أساسين: الدال وهو اللفظ أو الصورة الصوتية، والمدلول وهو المعنى أو الشيء المشار إليه. وقد أثارت طبيعة الصلة بينهما جدلاً واسعاً بين الفلاسفة واللسانيين؛ فانقسموا إلى اتجاهين متعارضين: فريق يرى أن العلاقة ضرورية تلازمية، وفريق يقابلُهُ يرى أنها اعتباطية اصطلاحية.
ومن ثمّ تُطرح الإشكالية على النحو الآتي: هل العلاقة بين الدال والمدلول تلازمية أم اصطلاحية؟ وبصيغة أخرى: هل الصلة بين الألفاظ والأشياء ضرورية أم تعسّفية؟
ومن ثمّ تُطرح الإشكالية على النحو الآتي: هل العلاقة بين الدال والمدلول تلازمية أم اصطلاحية؟ وبصيغة أخرى: هل الصلة بين الألفاظ والأشياء ضرورية أم تعسّفية؟
محاولة حل المشكلة (العرض)
عرض الموقف الأول: العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية
يرى أنصار هذا الاتجاه أن الارتباط بين اللفظ ومعناه وثيق وضروري، لا يقوم على الاختيار والتوافق، بل يكفي سماع الكلمة لمعرفة ما تدلّ عليه. يمثّل هذا الموقف كلٌّ من أفلاطون وإميل بنفست وغيرهما، ويستندون إلى الحجج الآتية:
- في محاورة كراطيل يؤكد أفلاطون أن اللفظ يطابق ما يدل عليه في العالم الخارجي، وأن أصل التسمية محاكاةٌ لأصوات الطبيعة؛ لذا تبدو العلاقة طبيعية لازمة: فكلمة زقزقة تشير إلى صوت العصافير، ومواء إلى صوت القطط. يقول أفلاطون: «الاسم محاكاة صوتية للشيء المحاكى»، كما يذهب إلى أن «الطبيعة هي التي أضفت على الأسماء معانيها».
- العلامة اللسانية، في نظرهم، بنيةٌ واحدة يتحد فيها الدال بالمدلول؛ فلو انفصل أحدهما عن الآخر زالت دلالة العلامة. والذهن الإنساني لا يستسيغ أصواتاً خاوية من معنى. فكلّ لفظٍ يستدعي صورةً ذهنية بعينها؛ فلفظ ثور مثلاً يستحضر صورة الحيوان العُشبي نفسه لا غيره. وقد عبّر إميل بنفست عن هذا بقوله إن الدال والمدلول «وجهان لشيء واحد» يتشكّلان معاً.
- لا دور حاسماً للإنسان في ابتكار معنى الألفاظ إذا كانت الأشياء نفسها توحي بتسمياتها: فكلمة طَرق تحاكي صوت الطرق على الباب، وتُسمّى الأشياء بحسب وظائفها: مِسطرة لأنها تُسطّر، محفظة لأنها تحفظ، سيالة لأنها تُسيِّل الحبر، ومثلث لكونه ذا ثلاثة أضلاع، ومربع لأربعة… إلخ. ومن ثمّ فكل لفظ يعكس طبيعة الشيء وهويته. ولهذا يقول بنفست: «العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل هي ضرورية».
- يؤيد بعض اللغويين أن لبعض الحروف إيحاءاتٌ دلالية: فحرف (ح) يرتبط بمعاني الانبساط والراحة (حب، حنان، حنين، حياة)، وحرف (غ) يوحي بمعاني الغمّ والظلمة والاختفاء (غيم، غمّ، غدر، غرق…). وهذا يُرجّح وجود صلة طبيعية بين الصوت والمعنى.
نقد الموقف الأول: صحيح أن بعض الألفاظ تحاكي ما تدلّ عليه، لكن التوسّع في تعميم الضرورة على جميع الألفاظ مبالغةٌ تُخالف طبيعة اللغة بوصفها إبداعاً إنسانياً. فنظرية المحاكاة لا تشمل إلا نسبةً محدودة من الكلمات، بينما الغالب اصطلاحي. كما أن وجود تعدّد المسميات لشيء واحد (كالأسد: الليث، الضرغام…) وتعدّد المعاني للفظٍ واحد (مثل مغرب لوقت الصلاة واسم بلد) يضعفُ القول بحتمية التطابق الدائم بين اللفظ والمعنى.
عرض نقيض الأطروحة: العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية
يرى هذا الاتجاه الذي يمثله دي سوسير وبياجيه ودولاكروا وأرنست كاسيرر أن العلاقة بين اللفظ والمعنى اصطلاحية تعسّفية؛ فاللفظ لا يحمل في خصائصه الصوتية ما يُحيل بالضرورة إلى معناه، وإنما تحدد الجماعات البشرية مسميات الأشياء بالتواضع والاتفاق. ويستدلون بما يلي:
- لو كانت الأشياء تفرض أسماءها بطبيعتها لكانت لغة البشر واحدة؛ والحال أن الألسنة متعدّدة، ما يؤكد الطابع الاصطلاحي للإشارة اللفظية. يقول بياجيه: «تعدّد اللغات دليلٌ بديهي على الميزة الاصطلاحية للإشارة».
- داخل اللغة الواحدة قد يتعدد المعنى للفظ واحد (ضرب: أعطى مثالاً، جال في البلاد، عاقب بالضرب، نصب الخيمة…) كما قد تتعدد الألفاظ لمعنى واحد (بحر/يمّ، سيف/حسام، أسد/ليث/غضنفر/ضرغام…). وهذا يدل على أن الألفاظ وضِعت للدلالة على معانٍ مجردة لا تُقرأ مباشرةً في الواقع المادي، وإنما تُكتسب بالتواضع الاجتماعي. ويؤكد كاسيرر أن أسماء الكلام الإنساني لا تشير إلى أشياء بذاتها، ويقول دولاكروا: «الجماعة هي التي تمنح الإشارة اللغوية دلالتها».
- عند دي سوسير لا يعبّر الدال عن الشيء ذاته بل عن تصوّرنا له؛ ومن ثَمّ لا وجود لضرورة بين الأشياء ومسمياتها، بل العادة رسّخت هذا الربط. فما سُمّي قَمَراً كان يمكن أن يُسمّى شمساً. والمدلول «أخت» لا يجمعه ارتباطٌ داخلي بتتابع الأصوات (أ، خ، ت)؛ إذ يُعبَّر عنه في لغات أخرى بأصوات مختلفة: soeur بالفرنسية وsister بالإنجليزية. ولو وجدت ضرورة لما اختلفت الأصوات وتكاثرت اللغات. ولذلك يقول دي سوسير: «الرابطة بين الدال والمدلول تحكيمية». كما يصرّح ابن جني: «إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة». والنتيجة: العلاقة اعتباطية.
نقد الموقف الثاني: على الرغم من قوة أدلّتهم، فإن تغليب الاعتباطية بإطلاقٍ مبالغةٌ أخرى؛ فليس للفرد حريةٌ مطلقة في وضع المصطلحات وإلا انهار التواصل. ثم إن للضرورة مواضع لا تُنكر: فالميزان رمزٌ للعدالة والثعلب رمزٌ للمكر بإيحاءٍ من الطبيعة والخبرة الثقافية، إضافةً إلى ألفاظ تكاد تكون كونيّة التداول (تكنولوجيا، بيولوجيا، ديمقراطية، دكتاتورية…) بما يقلّص هامش الاعتباطية الخالصة.
التركيب: تتبيّن لنا إمكانية التوفيق بين الرأيين: فالعلاقة بين الدال والمدلول طبيعية واصطلاحية معاً. فثمة ألفاظ محاكية لأصوات الطبيعة أو لوظائف الأشياء، وأخرى نشأت بالتوافق الاجتماعي. وكثيراً ما نفهم كلماتٍ بمجرد سماعها (مثل زقزقة التي يستكملها الذهن إلى زقزقة العصافير)، دون أن ينفي ذلك الدور الحاسم للتواضع اللغوي الذي يكفل التواصل. إذن فالألفاظ منها ما استُلهم من الطبيعة، ومنها ما استُقرّ عليه بالاتفاق البشري.
حل المشكلة (خاتمة): نخلص إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول تجمع بين الضرورة والاصطلاح: فبعض الألفاظ يحاكي صفاتٍ جوهرية في الأشياء كالأصوات والوظائف، وبعضها الآخر محكومٌ بالتواضع الاجتماعي. وقد لخّص جون بياجيه الأمر بقوله: «الرمز اصطلاحٌ صريح أو ضمني يرجع إلى الاستعمال». ومعناه أن بعض الحالات تقتضي ارتباطاً ضرورياً بين اللفظ وما وُضع له، فيما تقوم حالات أخرى على اتفاق الجماعة اللغوية وتقاليدها. وبذلك تُفهم اللغة بوصفها ظاهرةً مركّبة تجمع الطبيعيَّ بالاصطلاحي، لا هذا وحده ولا ذاك.