السؤال:
هل اللاشعور حقيقة علمية أم افتراض فلسفي؟
صيغ أخرى تشبه السؤال:
- هل اللاشعور حقيقة معرفية علمية الطابع أم مجرّد افتراضٍ فلسفي جدلي؟
- هل يُبرَّر اللاشعور بمناهج علمية دقيقة أم بمبادئ فلسفية عامة؟
- أهو اللاشعور علْمًا يُنتج تنبؤات قابلة للاختبار، أم خطابًا فلسفيًا يفسِّر بعد وقوع؟
- هل تُسند اللاشعور معطيات علمية صارمة أم قراءات تأويلية مرنة؟
- أيملك اللاشعور أدلة تجريبية كافية، أم يستند إلى مسوغات فلسفية فقط؟
- أهو اللاشعور حقيقة عيادية معمَّمة علميًا، أم افتراض فلسفي إرشادي؟
- هل يصل اللاشعور إلى موضوعية العلم، أم يبقى رهين الذاتية والتأويل؟
- أهو اللاشعور نتيجة برهنة تجريبية أم ثمرة تأويل فكري؟
- هل اللاشعور معرفة علمية مؤسسة، أم افتراض نظري خارج معيارية العلم؟
![]() |
| التحليل النفسي |
طرح المشكلة:
كان تفسير الحياة النفسية قد استقرّ زمناً على أنّها كلّها أحوال شعورية واعية؛ أي إنّ سلوك الإنسان مفهوم بأسبابه، وإنّ هناك تطابقاً بين النفس والشعور. غير أنّ علماء النفس تساءلوا عن مصدر السلوكات غير المفهومة، فبحثوا عن مستوى آخر في الحياة النفسية تُنسب إليه تلك الأفعال غير الواعية، وهو ما عُرف باللاشعور: مجموعة من العوامل والعمليات والدوافع التي تؤثّر في سلوك الفرد وتفكيره ومشاعره من غير وعيٍ منه. وهنا تباينت المواقف: فريقٌ يراها حقيقةً علمية، وفريقٌ يعدّها فرضاً فلسفياً. فهل يمكن صياغة اللاشعور في قالبٍ علمي، أم يظلّ مجرّد افتراضٍ فلسفي؟
محاولة حل المشكلة:
عرض القضية: اللاشعور حقيقة علمية (بروير وفرويد)
يرى أنصار مدرسة التحليل النفسي (سيجموند فرويد، جوزيف بروير، أنا فرويد ...) أن اللاشعور حقيقة علمية لا يمكن أنكارها، ما دامت معطيات الشعور غير كافية لفهم وتفسير العديد من الظواهر النفسية، ما يعني ضرورة التسليم بوجود جانب خفي في النفس لا يدركه الوعي، لكنه يؤثر في السلوك.
استند أنصار هذه الأطروحة إلى معطياتٍ عياديّة في معالجة الهستيريا والاضطرابات العصابية؛ فقد كُشف عن علاقةٍ وثيقة بين هذه الأمراض والنشاطات النفسية اللاشعورية. ومن هنا ابتُدع منهج التحليل النفسي دليلاً على الطابع العلمي للطرح، خاصةً بعد نجاحه في علاج كثير من الاضطرابات النفسية وانتشار العيادات النفسية عالمياً. ثم تجاوز التحليل النفسي دوره العلاجي إلى صياغة نظرية تفسّر جوانب متعددة من الحياة النفسية، وتُضيء “المناطق المظلمة” في الذات، مع إبراز أهمية خبرات الطفولة المبكرة في تشكيل الشخصية. ولهذا شدّد فرويد على مشروعية فرض اللاشعور بقوله: إن فرضية اللاشعور “لازمة ومشروعة”، ولدينا مؤيداتٌ عديدة على وجوده.
نقد القضية: يبقى تصوّر سيجموند فرويد ثورياً ومؤثّراً في حقل علم النفس، لكنّ الإصرار على مركزية الغريزة الجنسية والعدوانية يُفضي إلى تفسير الأعلى بالأدنى. كما أنّ تأويلات المحلّل النفسي للمعطيات قد تتلوّن بمعتقده، فيغلب عليها الطابع الذاتي وتضعف موضوعيتها، وهو ما يباعدها عن شروط العلم الصارمة، ويجعلها أقرب إلى الافتراض الفلسفي.
نقيض القضية: اللاشعور افتراض فلسفي (كارل بوبر، فتغنشتاين )
يرى بعض الفلاسفة والعلماء الوضعيين (كارل بوبر، فتغنشتاين ) أن اللاشعور مجرد فرض فلسفي يفتقر إلى مبررات علمية تؤكده، فالطرق التي اتبعها سيجموند فرويد لا تشبه الطرق العلمية في تأكيد النظريات، والاستقراء الذي اعتمده لا يناسب طبيعة الحياة النفسية.
ذهب عدد من تلامذة فرويد إلى أنّ اللاشعور ـ بصيغته الفرويدية ـ ليس نظريةً علميةً مكتملة. فـآدلر عارض ردّ السلوك الإنساني إلى الدوافع البيولوجية، ورأى الإنسان كائناً اجتماعياً تتحدّد أفعاله بحاجاته الاجتماعية، وأنّ الشخصية كلٌّ متكامل لا يُقسَّم. كما رفض تعميم عقدتيْ أوديب وإلكترا على جميع الأطفال، واعتبر الشعور بالنقص هو القوة الدافعة في الحياة النفسية، فيعمل الفرد ـ لاشعورياً ـ على التعويض عنه (كمن تحاول تعويض قِصَر القامة بارتداء حذاءٍ ذي كعبٍ عالٍ).
أمّا كارل يونغ فأثبت وجود اللاشعور الجمعي إلى جانب اللاشعور الفردي، ووسّع مفهوم الليبيدو إلى طاقةٍ نفسيةٍ عامة لا تقتصر على الجنس. ويتألّف اللاشعور عنده من:
-
لاشعورٍ فرديٍّ يضمّ خبرات الشخص المكبوتة،
-
ولاشعورٍ جمعيٍّ هو مخزن خبرة الجماعة وتظهر فيه الأنماط الأولية (صور المحارب، الحكيم، البطل…) التي تتشابه لدى الشعوب، إلى جانب ردود أفعال مشتركة تصدر عن الناس لاشعورياً (الحزن للموت، الفرح للولادة، الهرب عند الخطر…). ثم إنّ فرويد نفسه يقرّ بأنّ فرضياته قابلة للنقاش وليست يقينيّة مطلقة.

