السؤال:
هل الذاكرة من طبيعة بيولوجية؟
طرح المشكلة:
بحكم طبيعة الإنسان الفضولية التي تجعله دائم التساؤل حول ما يحيط به ، فهو يسعى دوما إلى معرفة العالم الخارجي وكشف غموضه، ولا يتأتى له ذلك إلا عن طريق مجموعة من الوسائل والآليات أهمها الذاكرة، وهي من حيث مفهومها تعني قدرة الإنسان على إستحضار الماضي وتذكره كما حدث في زمانه ومكانه ، ولكن موضوع طبيعة الذاكرة طرح جدلا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس، حيث اعتبر البعض أن الذاكرة ذو طبيعة مادية بيولوجية ، بمعنى أن الذكريات تخزن في الدماغ، في حين اعتبر البعض الآخر أنها ذو طبيعية نفسية سيكولوجية ، أي أن الذكريات تخزن في النفس عن طريق الشعور، وبين هذا وذاك وجب طرح الإشكالية التالية : هل الذاكرة من حيث ماهيتها مادية بيولوجية أم نفسية سيكولوجية؟
الذاكرة من طبيعة مادية بيولوجية، بمعنى أن الذكريات تخزن في الدماغ، ومادام الدماغ من طبيعة بيولوجية وجب علينا القول أن الذكريات من طبيعة مادية بيولوجية أيضا، وهذا ما أكده كل من ديكارت، ريبو، تين، ابن سينا وجون دولاي، وقد استند هؤلاء على جملة من الحجج والبراهين
لإثبات موقفهم أهمها :
اعتبر الفيلسوف الفرنسي ديكارت أن الذاكرة وظيفة مرتبطة بالدماغ ، والدماغ مرتبط بالجسد والجسد ذو طبيعة مادية بيولوجية، وبالتالي فالذاكرة مادية مشابهة للجسم، حيث يقول: "الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم". فهنالك حوالي ستمائة مليون مليون خلية تقوم بتسجيل وتخزين ذكريات
معينة ، وهذه الذكريات تترك آثارا مادية على الدماغ، وبهذا المعنى تصبح الذاكرة مجرد أسطوانة تسجل الصور الفوتوغرافية والأغاني . فالتخزين الآلي للذكريات حسب ريبو يكون عن طريق التكرار، وهذا لأن ترسيخ الحوادث والمعلومات لا يتم إلا إذا تكررت مرات عديدة، وتسترجع ذكرياتنا عن طريق منبهات خارجية ، فالمواضيع المتشابهة تدعو بعضها بعضا، فمثلا شخص يشبه شخصا آخر تعرفه يذكرنا به، كما أن الأشياء والأمور المتضادة قد ترتبط صورها في أذهاننا ، فالنهار يذكرنا بالليل ، والعلم بالجهل ، وأيضا تسترجع الذكريات بطريقة عفوية إذا ما تكرر زمانها أو مررنا بمكان حدوثها، وهذا ما أكده وريبو في قوله: "إن الذكريات الراسخة هي التي استفادت من تكرار طويل". ومن نفس الاتجاه يعتقد تين أن المخ يشبه الوعاء الذي تخزن فيه ذكرياتنا ، وبالتالي فالمخ يمثل المحتوي والذكريات تمثل المحتوى ، ومن هنا يقول: " المخ وعاء يستقبل ويخزن مختلف أنواع الذكريات". ونأخذ مثالا حول التجربة التي قدمها دولاي عن الفتاة التي تبلغ ثلاثة وعشرين من عمرها، والتي أصابتها رصاصة في المنطقة في الجدارية اليمنى، ومن جراء هذا أصبحت لا تتعرف على الأشياء التي توضع في يدها اليسرى رغم أنها بقيت تحتفظ بالقدرة على معرفة مختلف الإحساسات، فإذا وضع أي شيء في يدها اليسرى عجزت عن التعرف عليه، وبمجرد أن يوضع في يدها اليمنى تتعرف عليه بسرعة، وهكذا تبدو الذكريات كما لو كانت في منطقة معينة من الدماغ ، وأخيرا فقد حدد ابن سينا منطقة تخزين الذكريات في التجويف الأخير في الدماغ ، وهذا ما أقره في قوله : "الذاكرة قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ".
نقد الأطروحة:
لا يمكن إنكار قيمة ما طرحه هؤلاء في إعتبار أن الذاكرة ذات طبيعة مادية فيزيولوجية، ولكنهم بالغوا في ذلك، حيث أنه لو كانت الذاكرة مرتبطة فقط بسلامة الدماغ ، فكيف نفسر فقدان الكثير من الأفراد لأغلب ذكرياتهم رغم سلامة سلامة الدماغ كما يحدث في الصدمات النفسية ، ولو سلمنا مع ريبو أن فقدان الذكريات راجع إلى إصابة في الدماغ، كان من المفروض أن الذكريات المفقودة لا تعود نهائيا، ولكن بعض الحالات تؤکد إسترجاع بعض الأفراد لذکریاتهم بعد أن فقدوها.
نقيض الأطروحة :
من جهة أخرى، يؤكد العديد من الفلاسفة والمفكرين بأن الذاكرة من طبيعة نفسية سيكولوجية ، بمعنى أن الذكريات تخزن في النفس عن طريق الشعور، وهذا ما أكده كل من لالاند، هنري برغسون، فرويد، فنحن لا نعيد هذه الذكريات بصورة آلية لأن مجال التخزين هو النفس والآثار التي تتركها معنوية لا مادية ، ومثال ذلك الصدمات النفسية التي تترك جروحا عميقة في النفس كرؤيتنا لحادث مرور يبقى راسخا رغم أنه لم يتكرر إلا أننا تذكره باستمرار، فالذاكرة حسب لالاند هي: "إعادة بناء حالة شعورية ماضية ثم التعرف عليها من حيث هي كذلك". وأيضا يعتقد برغسون أن الاحتفاظ بالماضي يتم وفق صورتين مختلفتين جوهريا : صورة آلية محزنة في الجسم، ويسميها برغسون بذاكرة العادة ، وهي ذاكرة بيولوجية حركية تقوم على أساس البدن وتأخذ شكل عادات آلية ، أما الصنف الثاني وهي ذاكرة نفسية أو الذاكرة النفسية الشعورية، وهي ذاكرة مستقلة عن الجسم ذو طبيعة روحية، ويحكم برغسون أن الذاكرة النفسية هي الذاكرة الحلقة وليست ذاكرة العادة، حيث يقول برغسون: "إن الشعور إنما يعني أولا وبالذات الذاكرة". فالإصابات الدماغية في الجهاز العصبي لها تأثير على الآليات الدماغية التي تحفظ ذاكرة العادة بينما ليس لها أثر على الذكريات النفسيةً، كما أن الاكتساب في النوع الأول أي ذاكرة العادة يكون بالتدرج والتكرار، بينما في الذاكرة الحقة يكون دفعة واحدة وبدون تكرار، فالعامل الرئيسي في إثبات وتثبيت الذكريات هو الاهتمام وهو عامل نفسي وليس الي ومادي ، وهذا ما أكده برغسون في قوله: "إن الشعور هو ذاكرة أعني أنه حفظ الماضي في الحاضر وتجمع الماضي في الحاضر". ومن نفس الإتجاه، يعتبر فرويد بأن الذاكرة ذات طبيعة نفسية لاشعورية، فالإنسان بواجه في حياته مواقف مؤلمة وضارة يحاول نسيانها ولكنها لا تمحى بل تخزن في اللاوعي وتبقى مكبوتة ، ولذلك فهي تحاول الخروج مرة أخرى مما يؤدي إلى ظهور العقد النفسية وأمراض الهيستيريا ، فمثلا يروي فرويد عن فتاة كانت ترفض شرب الماء
وبعد تنويمها مغناطيسيا بدأت تروي قصتها مع زوجة أبيها، حيث أعطتها كوبا من الماء لعق منه كلبها، وبعد مدة تم كبت هذه الذكرى لتتحول إلى مرض نفسي يعرف بالهستيريا، وهذا ما أقره فرويد في قوله: "إن الذكريات المكبوتة أشد خطرا من رصاصة قاتلة".
نقد نقيض الأطروحة:
لا يمكن إنكار قيمة ما ذهب إليه هذا الاتجاه في توضيح موضوع الذاكرة ووظائفها المتعددة، إلا أنه بالغ في الفصل بين ما هو نفسي وبين ما هو عضوي ، فبما أن برغسون أقر بوجود نوعين كان عليه الإقرار كذلك بوجود طبيعتين، وأيضا لو كانت الذاكرة من طبيعة نفسية كيف نفسر الفقدان الكلي أو الجزئي للذكريات أثناء الإصابات المادية على مستوى الدماغ.
التركيب (التجاوز):
من خلال ما سبق ذكره يمكننا القول بأن الذاكرة ليست من طبيعة مادية بيولوجية ولا من طبيعة نفسية سيكولوجية، بل هي من طبيعة إجتماعية ، حيث أكد هالفاكس أن أهم عامل مؤثر في عملية التذكر هو العامل الإجتماعي ، وبالتالي فالمجتمع في نظره هو ما يساعد الإنسان على التذكر من خلال العادات والتقاليد التي سماها بالأطر الاجتماعية للذاكرة، ومادام الإنسان إبن مجتمعه ، فهو يتحدث دائما بلسانهم، ويتضح هذا من خلال أن الفرد الذي يعيش في مجتمع غير مجتمعه فإنه يميل إلى التحدث كثيرا عن عادات ومكتسبات مجتمعه بدل التحدث عن خبراته وتجاربه الخاصة. حيث يقول: "إن الماضي لا يحتفظ به وإنما يعاد بناؤه من الحاضر، والذاكرة تكون قوية عندما تنبعث من نقطة التقاء الأطر الاجتماعية".
حل المشكلة :
في الأخير يمكننا القول بأن الذاكرة ليست ظاهرة مادية فيزيولوجية على عكس ما يروجه أصحاب الطرح المادي ، وليست ظاهرة نفسية سيكولوجية كما يروج له أصحاب التفسير النفسي ، بل إنها من طبيعة اجتماعية ، وهذا من حيث أن الفرد هو جزء لا يتجزأ من الجماعة التي ينتمي إليها ، والواقع يثبت أن معظم خبراتنا الماضية من طبيعة اجتماعية كالاحتفالات الدينية والوطنية ، فلولا المجتمع لبقي الإنسان بلا ماضي، فالذكريات عبارة عن موروث ثقافي واجتماعي يحفظ في أطر اجتماعية عن طريق الذاكرة الاجتماعية ، والتي يستنبط منها الفرد هويته وأفكاره ومعتقداته وعاداته وتقاليده، ومن هنا يقول بيار جانيه في قوله: "لو كان الإنسان وحيدا لما كانت له ذاكرة وما كان بحاجة إليها".

