مقالة فلسفية حول مشروعية الفرضية

ابو محمد المعتصم
الصفحة الرئيسية
الحجم
مقالة فلسفية حول مشروعية الفرضية
 مشروعية الفرضية


السؤال:


قيل: "أن الفرضية العلمية مشروع ضروري لكل بناء تجريبي"


فهم السؤال:

البناء التجريبي: أي المعرفة العلمية الناتجة عن التجريب.

مشروع اي خطوة تمهيدية منها نتوصل للقانون العلمي الذي يربط بين الظواهر.

الفرضية كخطوة من خطوات المنهج التجريبي هي خطوة ضرورية للمعرفة العلمية القائمة على التجريب.

الفرضية ليست ضرورية للمعرفة العلمية ، لأن الاعتماد عليها يجلب الكثير من المخاطر ولذا وجب تجنبها.


تحرير المقال


طرح المشكلة:

إذا كانت الدراسة العلمية للظواهر الطبيعية تنطلق من الواقع عبر المعاينة ثم تعود إليه من خلال التجربة العلمية، وكانت خطوات هذه الدراسة متباينة فيما بينها بين ماهو عقلي وماهو واقعي، فقد اختلف الفلاسفة والابستمولوجيون حول طبيعة الخطوات التي تقوم الدراسة الاستقرائية للظواهر المختلفة، فذهب البعض إلى القول بضرورة استبعاد الفرضية كخطوة عقلية من أي دراسة علمية تجريبية، بينما ذهب البعض الآخر إلى اعتبارها خطوة ضرورية في كل كشف علمي يهدف إليه الباحث. فكيف يمكن تهذيب هذا التعارض؟ وهل بإمكان الباحث الاستغناء عن الفرضية العلمية في الدراسات التجريبية لمجرد كونها صادرة عن العقل؟

محاولة حل المشكلة:

عرض القضية:
يرى الفلاسفة العقليين وبعض العلماء الوضعيين (كلود برنار، هنري بوانكاريه) أن الفرضية مشروع ضروري في كل بناء تجريبي، فهي مجهود عقلي يبذله العالم يستهدف من خلاله الخروج من الإشكالية التي تطرحها الملاحظة، ولن يستطيع الدارس للطبيعة مهما فعل أن يكتفي بما هو حسي في دراسته للظواهر من حوله.

ومما يؤكد صحة هذه الفكرة أن الفرضية بمثابة مشروع قانون علمي، يصيغه العالم بناء على ما تجمع لديه من معطيات ووقائع مادية محسوسة، يحاول من خلال ذلك إدراك ما لا يظهر في الطبيعة بشكل محسوس، ما يعني أن الخوف على الدراسة التجريبية من الأحكام العقلية المسبقة ليس له ما يبرره، فالفكرة وليدة الواقع لا العقل، وليس بمقدور أي كان أن يفترض، بل لا بد من توفر شروط عقلية في العالم كقوة الخيال وخصوبته وذكاء وقاد …. فهو يهدف إلى تصور ما لا يوجد في الطبيعة بشكل محسوس، و"فرانسوا أوبير" كان عالما كبيرا لم تمنعه إعاقته البصرية من تخيل التجارب الصحيحة لأنه عوض فقدان البصر بقوة الحدس العقلي وبقدرته على وضع فرضيات صحيحة ، بمعنى آخر الفرضية هي تمثل واقع معين يتحكم في الظواهر المراد تفسيرها بحيث يستحيل إدراك هذه العلاقات اعتمادا على الحواس، هذا ما عبر عنه "كلود برنارد" حين قال " ينبغي أن نطلق العنان للخيال فالفرضية هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع إنها تنشأ عن نوع من الشعور السابق للعقل "، ولعل دور الفرضية في بناء العلم يتضح في أعمال "باستور" الذي ربط ظاهرة التعفن بالجراثيم رغم عدم رؤيته لها، ثم تأكد هذا الربط تجريبيا، هذه الحجج وغيرها دفعت "هنري بوانكريه" إلى القول " إن التجريب دون فكرة سابقة غير ممكن لأنه سيجعل كل تجربة عميقة".

نقد القضية:
لاشك أن للفرضية دور كبير في الربط بين خطوات الدراسة التجريبية لأن العلم لا يكتفي بجمع الظواهر فقط إنما يهدف إلى تفسير والربط فيما بينها، وهذا ليس في مقدر الحواس القيام به، لكن أنصار هذه الفكرة اهتموا بهذا الجانب و تجاهلوا المخاطر الناتجة عن المبالغة في الافتراض فقد يبعدنا الخيال عن واقع الظواهر المادية المحسوسة.

عرض نقيض القضية:
يرى فريق آخر من الفلاسفة التجريبيين كماجندي و جون ستيوارت مل… أن خطوة الفرضية تتعارض مع المناهج والدراسات التجريبة بالنظر إلى طابعها العقلي، وهي ليست أكثر من مخاطرة وقفز بالظاهرة المدروسة صوب المجهول.

ومما يؤكد صحة هذا الفكرة أن العقل لا دور له في دراسة الظواهر الطبيعية، بحيث يجب على العالم أن يلاحظ الظواهر الطبيعة ملاحظة جيدة، وسوف تغنيه هذه الأخيرة عما في ذهنه من أفكار، يقول "أوجست كونت" في هذا المعنى "أن الطريقة العلمية تختلف عن الطريقة الفلسفية فهي ليست بحاجة إلى التأويل العقلي بل إلى الوصف من خلال إجراء التجارب" ، كما أكد ذلك "أرنست ماخ" أيضا حين قال " المعرفة العلمية تقوم على إنجاز تجربة مباشرة " ، وبإمكان العالم الانتقال من الملاحظة إلى التجربة باصطناع بعض الطرق الاستقرائية مثل (التلازم في الحضور، التلازم في الغياب، التلازم في التغير، قاعدة البواقي) التي اشتهر بها جون ستيوارت مل الذي قال أيضا " إن الطبيعة كتاب مفتوح لإدراك القوانين التي تتحكم فيها ما عليك إلا أن تطلق العنان لحواسك". مما يعني أن التوصل إلى تحقيق انطباق الفكر مع الواقع لا يحتاج إلى الافتراض بقدر ما يحتاج إلى التمعن الجيد في هذا الواقع ومعاينته وإرغامه على الجواب.

نقد نقيض القضية:
رغم الخطر الكبير الذي قد تشكله الفروض الصورية على الدراسات العلمية التجريبية إلا أن هذا الموقف يستند إلى مبررات دوغماتية وثوقية فلسفية، بعيدة كل البعد عن الروح العلمية، لأن جمع الحوادث كما فعل جون ستيوارت مل في طرقه الاربعة لا يؤسس علما يقول بوانكاريه " كما أن كومة الحجارة ليست بيتا، كذلك اجتماع الحوادث دون ترتيب ليس علما ".

التركيب:
لابد من الاعتراف بأن العلم معرفة الممنهجة تدرس الظواهر من أجل الكشف و الربط بين الظواهر واسبابها، وتاريخ العلم يؤكد أن أهم النظريات المتوصل إليها سلكت طريق الفريضة فهذا نيوتن مثلا يضع بحثه نصب عينيه وكان كثير التأمل، وهذا "كانط" يقول: "ينبغي أن يتقدم العقل إلى الطبيعة مسكا بيد المبادئ وباليد الأخرى التجريب الذي تخيله وفق تلك المبادئ"، والمعرفة العلمية عموما بحاجة إلى قوة الحدس العقلي قال "غاستون باشلار" إن التجربة والعقل مرتبطان في التفكير العلمي والتجربة في حاجة إلى أن تفهم والعقلانية في حاجة إلى أن تطبق" مما يعني أن الفرضية ضرورية لا يمكن استبعادها من المنهج التجريبي، لكن ذلك مشروط باحترامها خصائص المعرفة العلمية ( شروط الفرضية العلمية).

حل المشكلة:
يبدو لنا أن هذا التعارض بين الموقفين ليس له ما يبرره وقد تجاوزته الروح العلمية المعاصرة التي لا تعترف بالفصل بين ما هو عقلي وماهو تجريبي، فهي تعترف بدور العقل وبأهمية الفرضية في الاستقراء لكن في حدود معروفة ومشروطة وعن هذا يقول برنار: "الحقيقة أنه لو فرض فرض لم تستطع التجربة أن تتحقق منه كان في ذلك خروجا عن المنهج التجريبي" ويقول أيضا في تعبيره عن التكامل بين خطوات المنهج التجريبي " المشاهدة توحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة والتجربة تحكم بدورها على الفرضية"، ما يعني أن الاستغناء عن الفرضية لا يمكن إلا إذا تجاوزت الفكرة حدود المعرفة العلمية.
google-playkhamsatmostaqltradent