نص السؤال:
هل التعرف على قواعد المنطق الصوري ومراعاتها تضمن لنا صحة التفكير وسلامته؟
فهم السؤال:
يتحدث السؤال عن قيمة نظرية القياس الأرسطية
القضية: مؤيد للمنطق ومعتقد إن تحصيل المعرفة والعلوم الصحيحة يتوقف عليه.
نقيض القضية: معارض له ومعتقد أن تحصيله لا يقدم ولا يؤخر.
الطريقة جدلية
طرح المشكلة:
إن المنطق الصوري هو العلم الذي يبحث في المبادئ والأسس العامة للتفكير المجرد، كما يبحث ضمن القواعد الضرورية التي يسير عليها الفكر ليميز بين الخطأ والصواب، في جميع الموضوعات دون تمييز، وهو بذلك آلة تضمن صحة التفكير، لكن هناك رأي آخر يعتقد أنه منطق شکلي صوري ليس بإمكانه ضمان صحة التفكير أو سلامته. فكيف يمكن تهذيب هذا التناقض الحاصل حول فهم دور المنطق الصوري؟ هل يضمن لنا العمل وفق قواعده صحة التفكير أم أنه مجرد قواعد صورية عاجزة عن القيام بذلك؟
في محاولة حل المشكلة
عرض القضية (الموقف الأول):
المعروف أن المنطق الصوري هو العلم الذي يتناول مجموع الشروط والقواعد الفكرية التي يقوم عليها التفكير السليم ويعد "أرسطو" هو مؤسس هذا المنطق كنظرية محددة القواعد هدفها يكمن في عصمة الذهن من الوقوع في الأخطاء وإبعاده عن التناقض مع نفسه، لهذا اعتبره "آلة العلم وصورته"، وهو بهذا يكشف لنا أن المنطق "فن" و"صناعة" تحدد صورة التفكير الصحيح وقواعده، وتعلمنا كيف نفكر وفق وحدات وشروط إذا التزم بها الفكر وطبقها عصمته من الخطأ. والدليل على ذلك: أن ملاحظة جميع وحدات المنطق الصوري (التصورات و الحدود، التعاريف،الكليات الخمس الأحكام والقضايا،الاستغراق، الاستدلالات بانواعها) نجدها تؤسس لدقة عقلية وبناء فكري محکم وفحص مضبوط للمقدمات وفق قواعد كلية يسلم بها العقل تلقائيا بغض النظر عن مضمون المعرفة و مادتها، ومن هنا يكون في وسع الفكر القدرة على كشف الأخطاء و الأغاليط، والابتعاد عن التناقض، وتحقيق التوافق والانسجام مع نفسه. إذا اعتبره "الفارابي" "صناعة تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان لمحو طريق الصواب ونحو الحق" ويؤكد هذا "عمر بن سهلان الساوي" بقوله : " أنه قانون صناعي عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد، بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته"، وبناء على هذا تظهر قيمة المنطق وقدرة قواعده على تحقيق انطباق الفكر مع نفسه وضمان صحة التفكير وتجاوز الأخطاء.
النقد :
لكن هذه الفكرة فيها كثير من المبالغة لان المنطق الصوري ناقص ولا يعبر عن حقيقة الفكر من جميع جوانبه، فهو منطق يهتم بصورة الفكر ويهمل مادته مما ولد محدودية تطبيقاته، إضافة إلى عقمه وعدم قدرته على إنتاج معرفة جديدة غير التي تتضمنها مقدماته.
عرض نقيض القضية (الموقف الثاني):
من هنا ظهر خصوم "أرسطو" وعلى رأس هؤلاء "ديكارت" و "فرنسیس بیکون" و"ج. س. مل" من العصر الحديث، و قبلهم "ابن تيمية" و "ابن خلدون" وغيرهم من مفكري الإسلام، حيث يتفقون بأن المنطق الصوري وقواعده لا تضمن صحة التفكير ولا تعصم الذهن من الأخطاء، لأنها قواعد ثابتة وصورية ولا تساير تقدم العلم ولاتقبل التطور مهما كانت المضامين المعرفية، كما أنه منطق ضيق لا يعبر إلا على بعض العلاقات المنطقية، ولا يتجاوز في أبلغ صوره علاقة التعدي، كما يقول "زكي نجيب محمود"، رغم أن العلاقات كثيرة جدا و الواقع الرياضي يشهد على ذلك، من ناحية أخرى فهو منطق لا يخرج عن دائرة الفكر وانطباقه مع نفسه ويغفل تماما عن الواقع و موضوعاته، ومن تمة الوقوع في الأخطاء، وعدم ضمان اتفاق جميع العقول، فهو لا يساير الواقع وأحداثه المتغيرة، ولهذا هاجمه أغلب الفلاسفة والمفكرين المحدثين، واجتهدوا في إبداع صور وأساليب منطقية جديدة تتناسب مع ظروف المعرفة والثقافة الحديثة، ونظرة جديدة لعلاقة الطبيعة بالعلم، وفي كيفية تصور الكم والكيف، والعلاقات والتغير ومن هنا ظهرت بدائل منطقية جديدة تبحث عن صحة التفكير وكيفية الابتعاد عن الأخطاء، كالمنطق الرمزي، والمنطق الجدلي، والمنطق الاستقرائي وغيرهم من البدائل المنطقية مما يعني أن المنطق الصوري لا يضمن صحة وسلامة التفكير .
النقد :
" غير أن هذا الاتجاه الذي يرفض المنطق الصوري يتغافل انصاره عن حقيقة تاريخية هي أن هذا المنطلق كان بمثابة البداية لتأسيس الدراسة النظرية لعمل الفكر وفهم أحكامه. من ناحية أخرى القول بمحدودية المنطق الصوري ونقصه لا يعني بالضرورة أنه خاطئ ويجب الاستغناء عنه، لأنه في كل الأحوال يعتبر بعدا إبداعيا لفهم عمل الفكر وإظهار كيفية انطباقه مع نفسه. وهذا يؤكد دوره وفعاليته في الكثير من حالات المعرفة الإنسانية كالرياضيات والفلسفة والأخلاق. وهذا ما يعني تعديله وتطويره وليس رفضه.
التركيب:
معرفة المنطق الصوري والالتزام بقواعده أمر ضروري لسلامة الخطاب العقلي، وتحقيق انسجام الفكر مع نفسه، يؤكد هذا دوره وأهميته في وضع مبادئ التفكير المنطقي والقوانين نظرية والتي تهدف في أساسها إلى إبعاد الفكر عن الأخطاء والتناقضات وضمان سلامته، لكن من ناحية أخرى يظل ناقص ويحتاج إلى نماذج منطقية أخرى لتكمل نقصه وتتناول مختلف الجوانب والموضوعات التي غفل عنها المنطق الصوري مثل انطباق الفكر مع الواقع، والاستدلال الرمزي، والمنطق الأداتي وغيرهم من الأساليب المنطقية التي تخدم فكر الإنسان وتسایر تطور معارفه معارف عقلية، مادية، وجدانية.
في حل المشكلة:
إن التحصن بقواعد المنطق الصوري، والتعرف على آلياته وصوره المختلفة لا تعني دائما العصمة من الخطأ وصحة التفكير والبرهان برغم ما يقدمه من قوة في البرهنة ودقة في التفكير ومهارة في الاستدلال، إلا أنه لا يفي بكل أبعاد وأغراض الفكر الإنساني لهذا كان لا بد من الاستعانة بإبداعات منطقية جديدة، يكون هدفها جميعا هو العمل على ضمان صحة التفكير من خلال تحقيق توافق الفكر مع نفسه ومع موضوعاته.