النص
" عندما نرى الأشياء فإننا في نفس الوقت نتصور الكيفية التي يمكن أن يراها بها الغير ، فإذا ما خرجنا عن ذواتنا فليس ذلك للاندماج مع الأشياء ، بل بالنظر إليها من وجهة نظر الآخرين ، ولا يمكن هذا إلا لأننا نذكر العلاقات التي كوناها معهم . فليس هناك إذن ذكرى يمكن أن نقول عنها إنها خارجية محضة (أي لا يمكن الاحتفاظ بها إلا في ذاكرة فردية) وفعلا ما دامت الذكرى تعيد إدراكا جماعيا ، فإنها في حد ذاتها لا يمكن أن تكون إلا جماعية ، ويكون من غير الممكن للفرد المقتصر على قواه فقط أن يتصور من جديد ما لم يتمكن من تصوره أول مرة إلا بالاعتماد على فكر زمرته (...) .
فنحن لا نستطيع أن نتذكر إلا شريطة أن نعثر في أطر الذاكرة الجماعية على مكان للحوادث الماضية التي تهمنا والذكرى تكون غنية بمقدار ما تنبعث في نقطة التقاء اكبر عدد من هذه الأطر التي بالفعل تتصالب ويغطي بعضها بعض الآخر جزئيا ، ويفسر النسيان باختفاء هذه الأطر ، أو قسم منها ، سواء كان انتباهنا غير قادر على الانجذاب نحوها أو كان منجذبا نحو شيء آخر ؛ غير أن النسيان أو تشويه البعض من ذكرياتنا يفسر أيضا بكون هذه الشاطر تتغير من مدة إلى أخرى ؛ فالمجتمع تبعا للظروف والأزمنة التي يتصور الماضي بكيفية مختلفة فهو يغير اصطلاحاته (...).
إذن : فإنه يجب العدول عن الفكرة القائلة بأن الماضي يحفظ كما هو في الذاكرة الفردية ، كما لو كان له عدد من النسخ المتمايزة مماثل لعدد من الأفراد .إن الناس الذين يحيون حياة اجتماعية يستعملون كلمات يفهمون معناها وهذا هو شرط الفكر الجماعي ، غير أن كل كلمة مفهومة تصحبها ذكريات ، وليس هناك ذكريات لا يمكن أن نطابقها بكلمات إننا ننطق بذكرياتنا قبل استحضارها ، إن اللغة وجملة من الاصطلاحات الاجتماعية التي يمكن أن تدعمها هي التي تمكننا في كل لحظة من إعادة بناء ماضينا ".
التعريف بصاحب النص
موريس هالفاكس (1839-1916) : عالم اجتماعي فرنسي ، من أبرز مؤلفاته : الأطر الاجتماعية للذاكرة المورفولوجيا الاجتماعية ، الذاكرة الجماعية.
المطلوب اكتب مقالة فلسفية تعالج فيها مضمون النص
عبارات النص :
مادامت الذكرى تعيد إدراكا جماعيا : عمل الذاكرة يتمثل في استرجاع حوادث ماضية عاشتها مجموعة من الأفراد.
لا يمكن الاحتفاظ بها إلا في ذاكرة فردية : هذا نفيا لإمكان وجود ذاكرة فردية ، و ردا على ما ذهب إليه كل من ريبو و برغسون .
أطر الذاكرة الجماعية : وسائل تساعد في الاسترجاع مثل العادات والتقاليد والقيم والمبادئ والأعراف المتواترة لدى جماعة ما.
هذه الأطر التي بالفعل تتصالب : أي تتشابه وتتداخل فيما بينها.
النسيان أو تشويه البعض (...): سبب الفشل في الاسترجاع هو التغير الحاصل على هذه الأطر .
فالمجتمع تبعا للظروف (...) يغير اصطلاحاته : أي يغير وسائل بناء الذكريات واستحضارها
ليس هناك ذكريات لا يمكن أن نطابقها بكلمات : أي دور اللغة في حفظ ذكرياتنا واستحضارها فالذكريات لا يمكن أن نعيد بناءها في غياب اللغة كظاهرة اجتماعية ، تنقل الفكر من طابعه الفردي الانفعالي إلى طابع موضوعي يجعله قابلا للحفظ والاسترجاع.
الفكرة العامة للنص
علاقة المجتمع ببناء ذكريات أفراده واسترجاعها
الإشكالية التي يعالجها هذا النص يمكن اختصارها فيما يلي:
هل يمكن تفسير الذاكرة بردها إلى طبيعة اجتماعية موضوعية؟
طرح المشكلة:
يندرج النص الذي بين أيدينا ضمن مجال فلسفة المعرفة ، كونه يعالج أحد موضوعات إدراك العالم الخارجي ، وهو طبيعة الذاكرة ، وهو موضوع قديم الطرح ، عرف لدى فلاسفة اليونان ، وقد أخذ هذا الموضوع بعدا آخر في العصر الحديث والمعاصر، حيث انتقل من الصراع بين ما هو عضوي وما هو نفسي، إلى البعد الذاتي والموضوعي للذاكرة وكان ممن حمل لواء هذه الفكرة عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر موريس هالفاكس "1938- 1916" والذي رفض التصورات السابقة التي فسرت طبيعة الذاكرة بردها لشعور الفرد وجهازه العصبي، من خلال إجابته عن سؤال مفاده: هل يمكن أن تكون الذاكرة من طبيعة اجتماعية خالصة؟
محاولة حل المشكلة:
موقف صاحب:
يرى (موريس هالفاكس) أنه يمكن للذاكرة أن تكون من طبيعة اجتماعية محضة ، ويرفض أن تكون تابعة لشعور الأفراد أو جهازهم العصبي، ، فالمجتمع هو بمثابة وسيلة تساعدنا على حفظ واسترجاع الذكريات ، وهو ما يؤكد أن الذاكرة لا يمكنها أن تكون إلا اجتماعية ، و الفرد لا يدرك ولا يتصور بل لا يتذكر إلا في إطار المجتمع ، و لهذا كان القول بفردانية الذاكرة أمر غير ممكن لا واقعية ولا منطقيا ، جاء هذا في قوله" إذن : فإنه يجب العدول عن الفكرة القائلة بأن الماضي يحفظ كما هو في الذاكرة الفردية "
حجج وبراهين صاحب النص :
استعمل عالم الاجتماع الفرنسي هالفاكس جملة من الحجج الواقعية للتدليل على موقفه. حيث اعتبر الذاكرة مجرد إدراكات مشتركة بين بين الأفراد مرتبطة بالفكر الجماعي ، واللغة كظاهرة اجتماعية، كما ركز أيضا على مجموع الأطر الاجتماعية التي تساهم في بنائها ، فكلما كانت هذه الأطر مجتمعة ومتفاعلة في تكوين ذكرى ، كلما كانت هذه الذكرى قوية وراسخة كما يحصل في الاحتفالات الدينية والأعياد الوطنية ، وكلما قلت هذه الأطر وتراجع دورها كانت الذكرى أكثر عرضة للنسيان والفقدان ، زد على ذلك أن ذاكرة الأفراد تساعد بعضها بعضا في الاسترجاع تحديدا ، لذا قال هالفاكس في مقام آخر :" عندما أتذكر فإن الغير هو الذي يدفعني لذلك ، لان ذاكرته تساعد ذاكرتي وذاكرته تعتمد على ذاكرتي". أما الحج الواقعية الأخرى فتتمثل في اللغة كظاهرة اجتماعية أساسية ، و الذاكرة كملكة عليا من نشاطات الفكر ، فإن اللغة تساهم في حفظ واستحضار ذكرياتنا :" وليس هناك ذكريات لا يمكن أن نطابقها بكلمات إننا ننطق بذكرياتنا قبل استحضارها إن اللغة وجملة من الاصطلاحات الاجتماعية التي يمكن أن تدعمها هي التي تمكننا في كل لحظة من إعادة بناء ماضينا".
النقد والتقييم
وفق صاحب النص في إلى حد كبير في إبراز الخصائص الاجتماعية لعملية التذكر، وتوضيح أهمية الغير كعامل مساعد على بناء واسترجاع الذكريات، لكن لو كانت الذاكرة من طبيعة جماعية خالصة ، فبما نفسر اختلاف الذكريات من فرد لآخر داخل الزمرة الاجتماعية الواحدة؟ ، وبما نفسر تباين استرجاع الذكرى الواحدة بين فردين مختلفا بصورة كبيرة ؟ وكيف نفسر الذكريات الشخصية التي لا نرغب كأفراد في إطلاع غيرنا عليها، كل هذا يؤكد أن هالفاكس أهتم بالعامل الاجتماعي وتجاهل العوامل الفردية الذاتية التي تعد ركيزة للتذكر، كالخصائص المادية العضوية أو الخصائص الروحية النفسية، لذا ينتقد الموقف الاجتماعي في أن تحدث عن وسائل التذكر لا عن طبيعة الذاكرة.
الرأي شخصي :
حقيقة الذاكرة بالدرجة الأولى أنها وظيفة تتعلق بنشاط الفكر ، وما دامت كذلك فإنها تخص الإنسان الفرد الذي تتداخل فيه جملة المعطيات المتشابكة و المعقدة ، وتبعا لذلك ستكون الذاكرة حصيلة تفاعل بين ما هو نفسي ، وما هو عضوي مادي ، غير أن ذلك لا يتحقق إلا داخل مجتمع يساعده على بناء ذكرياته واسترجاعها .
حل المشكلة :
خلاصة القول أن فهم طبيعة الذاكرة لا يمكن إدراكها خارج علاقة التفاعل بين جميع الجوانب المساهمة في البناء والاسترجاع سواء كانت اجتماعية أو روحية أو عضوية بيولوجية.