النص
﴿إن الفكرةَ الأساسيةَ في نظريةِ الصورةِ، هي أن الأَنساقَ الذهنيةَ ليسَتْ أبداً مكونةً من تأليفِ أو اجتماعِ عناصِرَ معطاةٍ في حالةِ انعزالٍ قبلَ اجتماعها، بلْ هي دائماً جملاٌ منتظمةٌ منذُ البدايةِ في " صورةٍ "، أو بنيةٍ شاملةٍ. وعليه فالإدراكُ ليسْ تركيباً لإحساساتٍ سابقةٍ، بلْ أنه يَتَحكمُ فيهِ في جميعِ المستوياتِ مجالٌ عناصرهُ مترابطةٌ، لأنها مدركةٌ معاً، مِثالُ ذلكَ أنَّ نُقطةً سوداءَ واحدةٌ إذا رٌئِيتْ على ورقةٍ كبيرةٍ، فإنهٌ لا يمكن إدراكُها كعنصرٍ منعزلٍ مهما كانتْ وحيدةً، إِذْ هي تنفصِلُ بصفتها " شكلاً " على " خلفيةٍ " تكونها الورقةُ، وأن علاقةَ الشكلِ الخلفية تفترضُ انتظامَ المجالِ البصري بأجمعهِ. ومما يؤكد صحة هذا الأمر، هو أنه كان يمكن في أسوأ الفروض إدراك الورقة على أنها الشيء " الشكل "، والنقطة السوداء على أنها ثقبة، أي على أنها الجزء الوحيد المرئي من " الخلفية ". فلماذا يَختارُ إذن الضرب الأول من الإدراكِ؟ ولماذا إذا رأينا ثلاث أو أربع نقاط متقاربة بدل النقطة الواحدة لم نستطع أن نَمَنعَ أنفسنا من جمعها في صورةٍ تقديريةٍ من المثلثاتِ أو المربعاتِ؟ ذلك أن العناصر المدركة في مجال واحد يقع ربطها مباشرة في بنيات شاملة تخضع لقوانين معينة، هي " قوانين الانتظامِ ".
قوانين الانتظام هذه هي التي تَتَحكمُ في جميع علاقات المجال، ليست بالنسبة إلى الفرض الجشطالتي سوى قوانين التوازن التي تتحكم في آن واحد في التيارات العصبية التي يبعثها الاتصال النفساني بالأشياءِ الخارجية، والأشياء ذاتها مجتمعة في محيط كلي يشمل في آن واحد العضوية ووسطها القريب﴾. جان بياجي
المطلوب: اكتب مقالة فلسفية تعالج فيها مضمون النص.
طرح المشكلة:
يندرج النص الذي بين أيدينا ضمن مجال فلسفة المعرفة حيث يتناول موضوع طبيعة الإدراك الحسي، وهو أحد المواضيع الضاربة بجذورها في تاريخ الفكر الفلسفي، وقد لقي اهتماما كبيرا من قبل فلاسفة العصر الحديث والمعاصر، حيث شهد تطورا ملحوظ حين انتقل من اعتباره موضوعا فلسفيا بحتا، إلى كونه موضوعا علميا، هذا ما نلمسه في نص عالم النفس السويسري المعاصر جان الذي حاول من خلال نصه هذا الرد على النظريات الكلاسيكية التي تقر بأن الادراك مجرد تأليف وتجميع بين إحساسات. فإن لم الادراك الحسي مجرد ترابط وتأليف بين إحساسات فما عساه يكون؟
محاولة حل المشكلة:
موقف صاحب النص:
يرى عالم النفس السويسري جان بياجي أن حقيقة الأدراك الحسي تختلف في طبيعتها عما تصوره الترابطيون "كونه لا يزيد عن اعتباره تألف وترابط بين إحساسات". بل هو شبيه بالظواهر النفسية الأخرى، بحيث لا يمكن تجزئته إلى عناصره الأولية، ولا الفصل بين أجزائه، ويرى أيضا أن العامل المؤثر في عملية الإدراك الحسي هو العالم الخارجي أو المجال الإدراكي، حسيا كان أو سمعيا ذوقيا او بصريا..... أو بنية الموضوع المدرك وصورته الكلية، تفكك هذه البنية وانتظامها بالإضافة إلى العلاقات العامة بين الأجزاء هي التي تشكل مواضيع ادراكنا. نلمس هذا في قوله: "وعليه فالإدراك ليس تركيبا لإحساسات سابقة بل أنه يتحكم فيه في جميع المستويات مجال عناصره مترابطة لأنها مدركة معا ".
دعم جان بياجي موقفه بالحجة الواقعية التمثيلية، فلو رأينا نقطة سوداء على رقة بيضاء فلا يمكن أبدا إدراك النقطة السوداء كعنصر منعزل عن الصورة الكلية والمجال الإدراكي، لأن الإدراك يبدأ بالمرحلة الاجمالية، والأجزاء تفقد معناها خارج البنية أو المجال الإدراكي، بل ليس بالإمكان إدراك النقطة السوداء المنعزلة التي سوف تفقد معناها خارج البنية أو المجال الإدراكي، ثم يستند إلى نفس الحجة عندما يؤكد أن الصورة الإدراكية التي نصل إليها في حال رؤيتنا لمجموعة "ثلاثة أو أربعة " نقاط متقاربة ومتجاورة هي صورة من المربعات والمثلثات، مرد ذلك إلى أن أجزاء الموضوع المدرك يتم ربطها في مجال إدراكي واحد على شكل صيغة أو بنية أو صورة كلية، مما يؤكد خضوع المجال الإدراكي لقوانين الانتظام التي تفرض نفسها على الذات المدركة، حيث تتحكم في جميع علاقات المجال، في حال تفكك الأجزاء أو انتظامها.
جاء النص على الصياغة المنطقية التالية:
- إما أن ترتبط عملية الادراك بتجميع الاحساسات أو انتظام المجال الإدراكي.
- لكن الادراك ليس تركيبا لإحساسات سابقة.
- إذن يتوقف الإدراك على انتظام المجال الإدراكي وتفككه.
نقد و تقييم النص
يلعب المجال الإدراك دورا كبيرا في إدراكنا لموضوعات العالم الخارجي من حولنا، وهو ما نبهت له نظرية الصورة أو المدرسة الجشطالتية، كما يتحكم المجال الإدراكي في أغلب عملية الإدراك وانتظامه يعني سهولة الإدراك وتفككه يعني الالتباس والإبهام، غير أن دور العالم الخارجي لا يعني بالضرورة تجاهل أهمية الذات المدركة فالعقل على سبيل المثال لا يكتفي بالدور السلبي الذي يرسمه له الشكل، حيث يصوره وعاء استقبال سلبي دون تأثير، لكنه يترجم ويفسر ويؤل، ثم لما لا نتفق جميعا حول إدراك البنية أو الصورة الواحدة؟ كل هذا يوحي أن المجال الإدراكي جزء من الكل.
الرأي الشخصي:
يبدو لي أن عملية الإدراك الحسي لا يمكن أن تكون مجرد تجميع لإحساسات سابقة أو منعزلة، كما لا يمكن الاكتفاء بالحديث حول قوانين الانتظام للتعبير عن طبيعة الإدراك الحسي، بل هي تفاعل حيوي بين عوامل بعضها ذاتي نفسي وبعضها الآخر يعود إلى الموضوع المدرك، بنيته تفككها وانتظامها.
حل المشكلة:
الإدراك الحسي من العمليات النفسية التي يتوقف عليها تفاعلنا مع العالم الخارجي وإدراكنا لماهية الأشياء من حولنا، لكن ذلك يتوقف على فاعلية الموضوع المدرك مع الذات المدركة بقواها المختلفة حسية كانت أو عقلية.