السؤال:
يقال "إن الإنسان مخير في افعاله لا مسير". دافع عن صحة الأطروحة.
فهم السؤال:
يتعلق بموضوع الحرية والمسؤولية.
الإنسان مسير في أفعاله: أي أنه مقيد ومجبر في سلوكاته كما قالت الجهمية، وانصار الحتميات العلمية.
الإنسان مخير في أفعاله: أي أنه يمتلك حرية مطلقة في الفعل أو الترك والقدرة على الاختيار(كما تزعم المعتزلة وأفلاطون وكانط وديكارت وغيرهم كثير.)
طرح المشكلة
يُولد الإنسان وهو يحمل سِمَة العقل والوعي، مما يجعله مسؤولًا عن أفعاله أمام ضميره وقوانين مجتمعه واعرافه. لكن هذا المبدأ الأخلاقي يُواجه تحديًا فلسفيًّا عميقًا، يتمثل في غياب شرط الحرية، حيث شاع بين عامة الناس "أنصار الحتمية" أن سلوك الإنسان محكومٌ بقوى خارجة عن إرادته واختياره، كالمسائل الغيبية والضرورات العلمية، غير أن هذا الرأي لم يصمد أمام الأطروحات المضادة التي ترى أن الإنسان يمتلك إرادة حرة تُمكِّنه من الاختيار وتحمل المسؤولية. فكيف يمكن الدفاع عن فكرة حرية الإرادة؟ وماهي الحجج التي تؤكد مشروعيتها وقابليتها للدفاع والتبني؟
محاولة حل المشكلة
عرض منطق الأطروحة "إن الإنسان مخير في افعاله لا مسير":
تنسب الأطروحة القائلة بأن "سلوك الإنسان يخضع لإرادته"، إلى مذاهب فلسفية كثيرة من بينها "أفلاطون المعتزلة ديكارت كانط هنري برغسون ..."، ولفهمها لا بد من فهم الأسس التي تقوم عليها. فالمسؤولية الأخلاقية والقانونية، التي تُجمع عليها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، تفترض مسبقًا أن الإنسان قادر على الاختيار بين الخير والشر. ولو كان مجبر على أفعاله، لسقطت فكرة المحاسبة، ولأصبح العقاب ظلمًا، وهو ما يتناقض مع مبادئ العدالة التي تُشكّل أساس الحياة الاجتماعية.
تدعم هذه الفكرة العديد من الحجج الفلسفية والدينية. ففي الفكر الإسلامي، يُجادل المعتزلة بأن عدل الله لا يتوافق مع جبر الإنسان؛ فكيف يُعاقب الخالقُ مخلوقًا على أفعالٍ لم يخترها؟ "إفعل يامن لا يستطيع أن يفعل" وبالمثل، في الفلسفة الغربية، يربط الفيلسوف "إيمانويل كانط" بين الواجب الأخلاقي والحرية، قائلًا: "إذا كان يجب عليك، فأنت تستطيع"، مؤكدًا أن الأمر الأخلاقي يفترض قدرة الإنسان على الاختيار، وإن كانت ماهية الإنسان في نظر الوجود لا تتحقق إلا عبر اختياره الحر وتحمل مسؤولية اختياره، فهو الكائن الوحيد الذي يوجد أولا ثم يحقق ماهيته بعد ذلك، يقول جون بول سارتر " الإنسان محكوم عليه بالحرية كما هو محكوم عليه بالوجود".
الدفاع عن الأطروحة بحجج شخصية "إن الإنسان مخير في افعاله لا مسير":
الأطروحة القائلة بأن "الإنسان مسير في أفعاله لا مخير" أطروحة صحيحة يصدقها العقل وؤكدها الواقع، ولا ينحصر دليلها في الجانب النظري؛ فالتجربة الذاتية للإنسان تُشكّل برهانًا وجوديًّا على حريته. فكل فرد يدرك في أعماقه أنه قادر على تغيير مسار حياته، حتى في أصعب الظروف. فالفيلسوف "فيكتور فرانكل"، الذي عانى في معسكرات الاعتقال النازية، أصرّ على أن الإنسان يمتلك حرية اختيار موقفه من المعاناة، مهما كانت قاسية. كما أن التاريخ الإنساني مليء بأمثلة الأفراد الذين تجاوزوا حتميات الطبيعة والمجتمع، كالمُخترعين الذين سخَّروا قوانين الفيزياء لصالحهم، والمُصلحين الذين حطموا قيود التقاليد البالية، مثل غاندي في نضاله السلمي ضد الاستعمار.
الرد على الخصوم "إن الإنسان مسير في افعاله لا مخير":
لكن هذه الأطروحة تواجه اعتراضات قوية من أنصار الحتمية، الذين يرون أن الإنسان ليس سوى نتاجٍ لِما يحيط به. فمن الناحية الطبيعية، يؤكد علماء الفيزياء مثل "نيوتن" أن الكون يسير وفق قوانين فيزيائية صارمة، والإنسان جزء لا يتجزأ من هذه الآلية ولا يمكنه الخروج عنها. ومن الناحية النفسية، يرى "فرويد" أن السلوك البشري محكوم بالدوافع اللاواعية والرغبات المكبوتة، التي تدفعه إلى الفعل أو الترك تحت الإكراه الداخلي. أما اجتماعيًّا، فيُبرز "دوركايم" أن الفرد ماهو إلا دمية يحرك خيوطها المجتمع" فالمجتمع هو الذي يُشكِّل وعيه وسلوكه دون إدراك منه.
غير أن هذه الحجج لا تقضي على فكرة الحرية، بل تُظهر أن الإرادة الإنسانية قادرة على التفاعل مع القيود، لا أن تكون سجينتها. فالإنسان لا ينكر تأثير الجاذبية، لكنه يخترع الطائرة! ولا يُلغي وجود الغرائز، لكنه يضبطها بالعقل! كما أن المجتمعات تتغير لأن الأفراد يمتلكون القدرة على نقد الواقع وبناء بدائل عنه. وهنا تكمن قوة الإرادة البشرية في تحويل الحتميات إلى إمكانيات، والقيود إلى تحديات، والضرورات إلى قوانين، ثم كيف لمن نقصت حرية اختياره أو غابت كليا يتحمل تبعات الفعل؟، هل يمكن والحالة هاته أن نعاقبه على فعل اجبر عنه؟ أم نرد التبعات للدوافع والأسباب؟.
حل المشكلة (التأكيد على مشروعية الدفاع)
في ضوء ما سبق، تتأكد لنا صحة الأطروحة القائلة بأن سلوك الإنسان يخضع لإرادته. فالمسؤولية الأخلاقية، والتجربة الذاتية، والإنجازات الحضارية، جميعها أدلة لا تُنكر على أن الحرية جوهرٌ في الوجود الإنساني. قد يتأثر الإنسان بعوامل داخلية أو خارجية، لكنه يظلُّ قادرًا على الاختيار الواعي، بل وتحويل تلك العوامل إلى أدواتٍ لتحقيق أهدافه. فالحتمية قد تُفسِّر جزءًا من السلوك، لكنها لا تقول كل شيء؛ لأن الإنسان كائنٌ يتجاوز ذاته دومًا بإرادته. ثم إن الحرية ليست انعدامًا للقوانين، بقدر ماهي فنُّ العيش معها بإرادة واعية. تلك الإرادة هي ما يجعل الإنسان إنسانًا كائنًا لا يُشبه سوى نفسه.