مقال جدلي موسع حول عوامل اكتساب العادة

ابو محمد المعتصم
الصفحة الرئيسية

 

السؤال:

هل تعتقد أن سلوكات العادة هي محصلة التكرار؟

صِيَغ مُشابهة للسؤال الفلسفي

هل العادة ثمرةُ مجرَّد التكرار الآلي للأفعال، أم نتيجةُ عوامل نفسية واجتماعية واعية؟
هل تُفسَّر العادة بوصفها سلوكًا آليًّا مرتبطًا بالجسم، أم باعتبارها فاعليةً نفسية واجتماعية يوجِّهها العقل والإرادة؟
إلى أي حدٍّ يمكن ردُّ تكوُّن العادات إلى التكرار، وإلى أي حدٍّ يتوقَّف على الاستعدادات العقلية والبُنى الاجتماعية للفرد؟
مقال جدلي موسع حول عوامل اكتساب العادة


طرح المشكلة:
يسعى الإنسان إلى التكيّف مع العالم الخارجي وفهمه، مستعينًا بعدد من الآليات النفسية والسلوكية، من أهمّها الإرادة والعادة. فالعادة – في الاصطلاح الفلسفي – قدرة مكتسَبة على أداء فعلٍ ما بسرعةٍ ودقّةٍ مع اقتصادٍ في الجهد، حتى يغدو هذا الفعل سلوكًا مألوفًا راسخًا. وقد اختلف الفلاسفة وعلماء النفس في تفسير نشأة العادة: ففريقٌ يراها وليدةَ التكرار الآلي للحركات، وفريقٌ آخر يربطها بالعوامل النفسية والعقلية والاجتماعية. ومن ثَمّ تُطرَح الإشكالية في الصيغة الآتية: هل العادة وليدة التكرار وحده، أم نتيجةٌ لتفاعل التكرار مع العوامل النفسية والاجتماعية؟

عرض القضية (الأطروحة):
يرى أنصار الاتجاه الآلي وفي مقدمتهم أرسطو، وديكارت، وماكدوغال، وبافلوف، وواطسن، وثورندايك أنّ التكرار هو الأساس في تكوّن العادات، وأنّ السلوك التعودي لا يترسخ إلا بالممارسة المتكررة. فأرسطو يصرّح بأن «العادة وليدة التكرار»، أي إن الفعل لا يغدو عادة إلا إذا أُنجِز مرّات عديدة، كما هو الشأن في تعلّم العزف أو السباحة؛ إذ يُقسَّم الفعل المركّب إلى حركات بسيطة تُكرَّر حتى تُتقَن. ويضيف ديكارت أن التكرار يترك آثارًا مادية في الجهاز العصبي تشبه «الطية» في الورقة، مما يسهل إعادة الفعل نفسه؛ وهو ما يوضّحه ماكدوغال بقوله: «إن العادة ليست سوى مجموعة منظَّمة من الآثار المترابطة في الجهاز العصبي». أمّا بافلوف فقد بيّن بتجربة المنعكس الشرطي أن اقتران المثير الطبيعي بالمثير الاصطناعي، ثم تكرار هذا الاقتران، يحوّل الاستجابة إلى سلوك آلي مشروط. وكذلك فعل واطسن في تجربته على «ألبرت الصغير» حين حاول إظهار أن الخوف يمكن أن يُكتسَب بالتكرار والاقتران بين الفأر الأبيض والصوت القوي[تنبيه: يحتاج توثيقًا]. ويأتي ثورندايك ليؤكد بقانون «المحاولة والخطأ» أن الحيوان والإنسان يتعلّمان من خلال تكرار المحاولات؛ فيحتفظان بالاستجابات الصحيحة ويتخليان عن الخاطئة، حتى يصبح السلوك الصحيح عادة راسخة يسيرة الأداء.

نقد القضية:
لا يمكن إنكار الدور الأساسي للتكرار في ترسيخ العادات، غير أن حصر تفسير العادة في البعد الآلي وحده يؤدي إلى نظرة اختزالية للإنسان تجعله شبيهًا بآلةٍ لا تقوم إلا بحركات ميكانيكية متكررة، وهو ما يتنافى مع حقيقته ككائن عاقل وواعٍ وذو إرادة وقيم. كما أن التعلّم لا يتحقّق بمجرد تكرار الحركات في غياب الوعي؛ إذ يستحيل اكتساب عادات فكرية أو أخلاقية أو اجتماعية معقّدة دون تدخل الانتباه والرغبة والإرادة. فالاقتصار على التكرار يهمل الحياة النفسية والعقلية للفرد، ولا يفسّر كيف نُحسِّن أداءنا، ونحذف الأخطاء، ونبتكر حلولًا جديدة، وكلها أبعاد تشير إلى أن العادة ليست تكرارًا أعمى خالصًا.

عرض النقيض (الأطروحة المضادة):
في المقابل، يرى أنصار الاتجاه النفسي والاجتماعي مثل فون درفلت، وكوهلر، ودولاكروا، ودوركايم أنّ العادة ترتبط أساسًا بالاستعدادات العقلية والفعاليات النفسية والاجتماعية، وأن التكرار لا يكون ذا قيمة إلا إذا كان موجَّهًا بالوعي. ففون درفلت يقرر أن العادة تجديدٌ وتطوّر دائم، فالطفل لا يكتب بالطريقة نفسها في كل مرة، بل يُعدّل خطّه ويحذف الحركات غير المجدية؛ لذا يقول: «إن الحركة الجديدة ليست مجرد تجمّع حركات قديمة، إنها تحذف الحركات غير المجدية والزائدة». أما الجشطالتية بزعامة كوهلر فتؤكد أن التعلّم يتم عن طريق الاستبصار وفهم الموقف فهمًا كلّيًا، لا بمجرد تجزئة الفعل وتكراره؛ وهو ما دلّت عليه تجارب الشمبانزي مع الصناديق والعصاتين، حيث توصّل القرد إلى الحل فجأة عندما أدرك العلاقة بين الوسيلة والغاية. ويضيف دولاكروا مبرزًا دور الوعي: «إن الانتباه وإرادة التعلّم وكيفية تصوّر العمل، كل ذلك يؤثّر في تكوين العادات»، فالعازف لا يكتسب عادته إلا بفضل رغبته وإرادته واهتمامه بتصحيح أدائه. كما يذهب دوركايم إلى أن المجتمع يفرض على الفرد عاداتٍ وقيمًا ومعايير يتشربها بالتنشئة الاجتماعية، حتى إنه يقول: «حينما يتكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي يتكلم»، فيغدو جزء كبير من عاداتنا انعكاسًا للضغط الاجتماعي والتربية الجماعية.

نقد نقيض الأطروحة:
مع أنّ هذا الاتجاه يُنصف بحقّ دور الوعي والانتباه والرغبة والعوامل الاجتماعية في تكوّن العادات، فإنه في المقابل يميل إلى التقليل من شأن التكرار، مع أنّ التجربة اليومية تؤكد أن حضور الاستعداد العقلي والنفسي والاجتماعي، من دون ممارسة متكررة، لا يؤدي إلى ترسيخ السلوك. فلا يمكن تعلّم السياقة، مثلًا، بمعرفة قواعد المرور والإرادة وحدهما؛ بل لا بد من التدريب العملي المستمر حتى تصبح القيادة عادة تلقائية. وكذلك الشأن في تعلّم القراءة والكتابة والعزف؛ إذ لا يكفي الفهم النظري والاستبصار، بل يحتاج الفرد إلى تكرار الأداء لكي تُرسَّخ الروابط العصبية ويتحوّل الفعل إلى مهارة ثابتة. وعليه، فإن إقصاء التكرار يظلّ بدوره تفسيرًا ناقصًا.

التركيب:
انطلاقًا مما سبق، يتبيّن أن كُلًّا من الاتجاه الآلي والاتجاه النفسي–الاجتماعي يمسك بجانب من الحقيقة؛ فالصواب هو النظر إلى العادة على أنها سلوك مكتسَب يقوم على التكرار، لكن في إطارٍ من الضبط العقلي والتوجيه النفسي والاجتماعي. فالتكرار يرسّخ الفعل ويثبّته على مستوى الجهاز العصبي، غير أن اختيار الحركات المفيدة، وتصحيح الأخطاء، واستبعاد ما لا جدوى منه، كل ذلك من عمل العقل والانتباه والاستبصار. كما أن المجتمع يوجّه كثيرًا من عاداتنا من خلال التربية والقيم والمعايير. وهذا ما يشير إليه بول غيوم بقوله: «إن علم النفس لا يجد صعوبة في استخلاص شرطين في تكوين العادات، وهما: من جهة مرات تكرار الفعل، ومن جهة أخرى الاهتمام الذي يوليه الشخص لفشله وإنجاحه». وهكذا تظهر العادة ثمرةً لتفاعل التكرار الآلي مع العوامل النفسية والعقلية والاجتماعية.

حل المشكلة:
بناءً على هذا التحليل التركيبي، يمكن القول إن التكرار يلعب دورًا أساسياً في نشأة العادات وترسيخها، ولكنه غير كافٍ وحده؛ إذ لا بد أن يصاحبه حضور العقل والفعاليات النفسية وتأثير الوسط الاجتماعي. فالعادة ليست سلوكًا آليًا محضًا كما يرى الاتجاه الآلي، ولا هي مجرّد فاعلية نفسية اجتماعية منزوعة الأساس الجسمي؛ بل هي نتيجة تضافر العوامل الآلية (التكرار)، والنفسية والعقلية (الوعي، والانتباه، والاستبصار، والإرادة)، والاجتماعية (التربية، والقيم، والمعايير). وبهذا يمكننا الإجابة عن السؤال: هل العادة وليدة التكرار أم وليدة عوامل نفسية واجتماعية؟ بأنها وليدة تكامل هذه العوامل جميعًا، ولا تُفهم فهمًا صحيحًا إلا في ضوء هذا التكامل

google-playkhamsatmostaqltradent